ليس صدفة أن تبادر أميركا إلى طرح مسعى حلّ الخلاف اللبناني ـ «الإسرائيلي» حول الحدود البرية والبحرية، بشكل يقوم على التفاوض المباشر بين لبنان و«إسرائيل» برعاية أممية وحضور أميركي مقنّع، أو بالأحرى إدارة أميركية فعلية، وإنْ كانت خلف الستار خارج غرفة الاجتماعات.
فأميركا ومعها «إسرائيل» تعرف أنّ ما كانت تعوّل عليه من العدوان على سورية، وتالياً على المحور المقاومة، وكانت تنتظره من نتائج من هذا العدوان، سقط وذهبت الآمال أدراج الرياح، فلا سورية سقطت ولا محور المقاومة تفكك ولا شيء من الآمال الإسرائيلية تحقق، حتى أنّ ما يُقال عن «تصفية القضية الفلسطينية» عبر ما يسمّى «صفقة القرن» فشل هو الآخر. والأخطر هو ما سمعته «إسرائيل» بوضوح كلي عن لسان الأمين العام لحزب الله الذي عوّدهم على الصدق في كلّ كلمة وموقف يتخذه، ما سمعته مؤخراً من كلامه الواضح تخييراً للإسرائيليين أو لنقل لليهود من غير سكان فلسطين الأصليين، بين العودة إلى بلادهم الأصلية التي جاؤوا منها بعد إعلان وعد بلفور فيكسبون أمنهم وسلامتهم، أو انتظار الحرب الكبرى التي لا بدّ مقبلة. وعندها لن تكون لديهم فرص كثيرة للمحافظة على أنفسهم، لأنّ هذه الحرب ستنتهي مؤكداً بهزيمة «إسرائيل» وإسقاط كيانها المغتصب لفلسطين وعندها يفتح الأقصى للصلاة فيه من قبل أهله وأصحاب الحق فيه، فيدخلون إليه دخول المنتصرين المحرّرين.
لأنّ هذا هو واقع الحال بعد ما يزيد عن سبع سنوات من العدوان على سورية ومحور المقاومة «شاءت» أميركا أن تقدّم قبل فوات الأوان الى «إسرائيل» انطلاقاً من لبنان جائزة ترضية تريحها في بعض الجوانب وتمنحها مكاسب أمنية واقتصادية في جوانب أخرى. ولهذا كان المسعى الأميركي الذي استبق بسلسلة من التدابير ضدّ محور المقاومة إجمالاً وضدّ إيران وحزب الله تحديداً. تدابير بدأت بالانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران والعودة الى كافة التدابير الانتقامية الكيدية التي تسمّيها أميركا عقوبات على إيران وهي تسمية غير مشروعة وغير قانونية، لأنّ مَن يعاقب هو مَن يملك سلطة الولاية على المعاقَب. ولهذا يجب ان لا يُستعمل المصطلح كما تريد أميركا إعطاء نفسها حق الولاية على إيران . والتهديد بتدابير أشدّ وأقسى مستقبلاً إضافة إلى تدابير كيدية انتقامية ضدّ حزب الله، والضغط على القوى اللبنانية في محاولات لعزل الحزب داخلياً. كلّ ذلك من أجل إنتاج بيئة ملائمة لفرض المسعى الأميركي على لبنان لحمله على القبول بما تريد «إسرائيل» براً وبحراً على الحدود.
قد يقول قائل بأنّ التفاوض الذي تطرحه أميركا وتريده «إسرائيل» لا يختلف عما هو قائم حالياً في الناقورة من خلال اللجنة الثلاثية التي أقيمت خلافاً للقانون بعد حرب العام 2006، ولكننا مع رفضنا أصلاً لفكرة هذه اللجنة ومع تأكيدنا على أنّ القرار اللبناني بالدخول فيها كان خطأ قانونياً وسياسياً واستراتيجياً، وبأنّ وقف العمل بها يجب أن يتمّ اليوم قبل الغد، ومع هذا فإنّ التفاوض المطروح في موضوعه ونتائجه يختلف عن المحادثات الجارية اليوم شكلاً ومضموناً.
ففي مباحثات الناقورة الثلاثية اليوم لا يتمّ حوار بشكل مباشر بين الوفد اللبناني والوفد الإسرائيلي، بل عبر الأمم المتّحدة، وكل وفد من الثلاثة يجلس الى طاولة منفصلة عن الأخرى فلا توجد طاولة مستديرة تجمع الثلاثة ولا تُوجد طاولة بشكل مثلث متصل الأضلاع ولا طاولة بشكل U تجمع الجميع. أما في المهمة، فإنها محصورة بتنفيذ القرار 1701 وهو لم ينصّ على إنشاء هذه اللجنة من أجل معالجة الإشكالات الميدانية واعتراضات طرف على سلوكيات الطرف الآخر، لحلّ الإشكال دون الاضطرار لاستعمال القوة. وأخيراً ما يتمّ التوصل إليه لا يكون بحاجة الى توقيع بين المتفاوضين، بل يكون تعهّداً من كلّ طرف على حدة أمام الأمم المتحدة عبر قوات اليونيفيل التي تتابع الإجراءات التنفيذية الميدانية مع الأطراف وفقاً لتعهّداتهم.
اما التفاوض المطروح حالياً فهو في الشكل والمضمون أمر مختلف، حيث يريد الأميركي لقاء مباشراً بين لبنان و«إسرائيل» يذكّر بمفاوضات 17 أيار مع فارق استبدال الوجود الأميركي العلني فيها بالوفد الأممي وبإجرائها كلها في مقرّ اليونيفيل في الناقورة وليس تناوباً بين لبنان وفلسطين المحتلة. ومن جهة المضمون تهدف المفاوضات الى «ترسيم الحدود» بين لبنان و«إسرائيل» براً وبحراً وبحث مصير مزارع شبعا وحدودها وصولاً الى اتفاق حولها يوقع عليها الطرفان اللبناني والإسرائيلي وعلى وثيقة واحدة تشهد الأمم المتحدة عليها للمصادقة على التوقيع.
وفي تفحّص لهذه المفاوضات وبالشكل المعروض نجدها تكرّس واقعاً حقوقياً جديداً بين لبنان و«إسرائيل» يختلف عن كلّ ما سبقه، ويعطي «إسرائيل» الكثير من المكاسب التي حلمت بها طويلاً في الماضي وينشئ من المخاطر ما يذكر بعضه كما يلي:
1 ـ الإقرار النهائي بإلغاء اتفاقية الهدنة بين لبنان و«إسرائيل» وقبول لبنان بأن يحلّ مكانها واقع جديد قد يكون اتفاقية تسمّى «اتفاقية الناقورة». وفي هذا انصياع للإرادة الإسرائيلية التي ألغت ومن جانب واحد اتفاقية الهدنة للعام 1949 إلغاءً حصل في 29/6/1967 رغم أنّ لبنان لم يكن طرفاً في حرب 1967.
2 ـ التنازل عن الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المثبتة باتفاقية بوليه نيوكمب 1923، والمصادق عليها من قبل عصبة الأمم وهي حدود نهائية ينبغي أن لا تطرح لأيّ نوع من التفاوض. فلبنان لا يحتاج لترسيم حدود برية مع فلسطين مطلقاً، فالحدود مرسّمة، حتى أننا في العام 2000 عندما طرحت الأمم المتحدة الأمر رفضنا رفضاً مطلقاً وأكدنا حدودنا الدولية، كما أنّ الخط الأزرق الذي ابتدعته الأمم المتحدة للتشويش على الحدود تلك أكدنا على أنه من غير قيمة حقوقية ولا يمسّ بحقوق لبنان المكرّسة بالحدود الدولية. إنّ الحدود البرية اللبنانية مع فلسطين المحتلة بحاجة الى رفع اعتداء «إسرائيل» عنها وليست بحاجة الى ترسيم جديد. ولذلك يجب أن يكفّ المعنيون عن استعمال عبارة «المناطق المتنازع عليها»، واستعمال عبارة «المعتدى عليها» من قبل «إسرائيل» اعتداء يطال اليوم 13 منطقة دخلتها «إسرائيل» في حرب العام 2006 ولم تفلح لجنة الناقورة بإزالة هذا العدوان حتى اليوم.
3 ـ الموافقة اللبنانية الضمنية على ضمّ «إسرائيل» للجولان، السوري المحتلّ، لأنّ مزارع شبعا منطقة لبنانية تقع على الحدود مع سورية ملاصقة للجولان الذي أعلنت «إسرائيل» ضمّه وجعلت نفسها بهذا الضمّ بديلاً لسورية في صلاحية البحث في حدود المنطقة. على «إسرائيل» الإذعان للاتفاق اللبناني السوري الذي يحدّد حدود المنطقة تلك والانسحاب منها تطبيقاً للقرارات الدولية التي كان آخرها القرار 1701.
لكل هذه المخاطر نرى أنّ على لبنان وهو القوي بذاته جيشاً ومقاومة وشعباً، وبموقفه القانوني المحصّن بالحدود الدولية والقانون الدولي، عليه ان يحاذر الانزلاق الى ما يطرح عليه ويمسّ بحقوقه ومكتسباته وانّ المعالجة التي نراها مجدية تتركز على:
أ ـ العودة الى اتفاقية الهدنة وعدم اللقاء مع «الإسرائيليين» إلا بمقتضاها، ووفقاً لما كان يجري بين العام 1949 والعام 1967، وفي هذه الاتفاقية تأكيد على الحدود الدولية البرية وفقاً لاتفاقية بوليه نيوكمب.
ب ـ رفض بحث موضوع مزارع شبعا مع «إسرائيل» وحصر العلاقة بها مع سورية والاستناد الى اتفاقية غزاوي وخطيب بهذا الشأن.
ج ـ خروج «إسرائيل» من المناطق المعتدى عليها ورفض أيّ فكرة تبادل أراضٍ أو أي فكرة توقيع اتفاق جديد مع «إسرائيل» حول الحدود البرية.
د ـ معالجة أمر الحدود البحرية وفقاً لاتفاقية قانون البحار للعام 1982 ومراجعة الاتفاقية في هذا الشأن مع قبرص وتصحيح الخطأ فيها باتفاق ثنائي لبناني قبرصي، ثم إعادة رسم خريطة المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة وفقاً لذلك، ولا بأس من الاستعانة بخبراء محلّفين معتمدين لدى الأمم المتحدة أو لدى محكمة العدل الدولية للشهادة فقط على دقة الترسيم اللبناني للحدود ثم إيداع الملف الأمم المتحدة.