شكل انعقاد القمة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والكوري الشمالي كيم أون في سنغافورة تحولا هاما في مسار العلاقة بين الدولتين. فهذه القمة جاءت بعد التهديد والوعيد الأميركي بشن الحرب على كوريا الشمالية وتدمير قدراتها وفرض الحصار والعقوبات الدولية عليها منذ عقود، والرد الكوري القوي على التهديدات بالإعلان عن جاهزية كوريا النووية والصاروخية لضرب الولايات المتحدة وقواعدها العسكرية في المنطقة.
فما الذي دفع إلى عقد القمة؟ وكيف تقرأ نتائج عقد القمة؟ وهل نحن أمام اتفاق شامل، أم خريطة طريق لمفاوضات طويلة وشاقة؟، وما هي الاشتراطات الكورية الشمالية التي تطلبها بيونغ يانغ مقابل التخلي عن سلاحها النووي؟، وهل تستجيب واشنطن لهذه الاشتراطات؟.
كل هذه الأسئلة ارتسمت دفعة واحدة مع انعقاد القمة والإعلان عن الاتفاق على توقيع وثيقة تتضمن نزع الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية ووقف المناورات العسكرية الأميركية في كوريا الجنوبية.
أولا: تشكل القمة بكل المقاييس انتصارا واضحا لا لبس فيه لكوريا الشمالية، وتراجعاً أميركياً، فالقمة تمثل اعترافا أميركيا بكوريا الشمالية كدولة مستقلة والتسليم بالتعامل معها ندا لند بعدما كانت واشنطن تصنفها في دائرة دول «محور الشر»، في العالم، وتعمل ليل نهار على تشديد نظام الحصار والعقوبات الدولية عليها لإخضاعها وفرض الاستسلام عليها. طبعا هذا الاعتراف يعني عمليا اعترافا غير مباشر بفشل الإدارة الأميركية في فرض سلطانها وإملاءاتها على كوريا الشمالية، وواشنطن أجبرت واضطرت مكرهة إلى ذلك بفعل معادلة توازن الردع والرعب الذي تمكنت بيونغ يانغ من فرضها في مواجهتها الطويلة مع الولايات المتحدة الأميركية، وقد عبرت صحيفة ذي إندبندنت البريطانية عن هذه الخلاصة بالقول: «إن مجرد عقد القمة معناه الاعتراف بالمساواة في المكانة مع كوريا الشمالية، وان هذا ما تطمح إليه بيونغ يانغ».
ثانيا: الواضح أن دونالد ترامب لجأ إلى الموافقة على عقد القمة مع كيم أون بعدما وجد أنه لم يعد أمامه من خيار آخر للخروج من مأزق العجز عن إخضاع كوريا وتوجيه ضربة عسكرية لها، لأن بيونغ يانغ ليست ضعيفة وهي تملك قدرة الدفاع عن نفسها وتوجيه ضربات مؤلمة للولايات المتحدة، ولهذا وجد ترامب في القمة سبيلا للنزول من أعلى الشجرة من دون أن يظهر وكأنه انكسر أمام صلابة الموقف الكوري، ولهذا حاول ترامب التغطية على ذلك بالتركيز في تصريحاته على تفاؤله بنزع السلاح النووي لكوريا الشمالية في وقت قريب.
ثالثا: بالمقابل تلقفت بيونغ يانغ موافقة واشنطن على القمة باعتبارها مكسبا هاما بالنسبة لها يكرس شرعيتها ويعزز موقفها ويسقط نظام الحصار والعقوبات الأميركي كسلاح لإخضاع الدول، ويؤكد عد نجاعته وفعاليته عندما تكون هناك دول على رأسها قيادات تملك الإرادة الوطنية المستقلة وترفض المساومة عليها، كما هو حال كوريا الشمالية، وكوبا، وفنزويلا وإيران.. وغيرها من الدول التي واجهت الحصار وكل أنواع العقوبات الجائرة ونجحت في الصمود في مواجهتها وبناء منظومتها التنموية المستقلة وقدراتها الدفاعية لحماية استقلالها الوطني.
هذا يعني إعلان فشل مدوي لسياسة الهيمنة الأميركية وسقوط الأحادية القطبية، والاعتراف بأن زمن هذه الأحادية قد ولى، لاسيما وأن كوريا الديمقراطية تستند إلى تحالف دولي قوي بقيادة روسيا والصين يقاوم نظام الهيمنة الأميركي ويعمل على بناء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب يحترم القوانين والمواثيق الدولية. ولهذا فإن كيم أون يلتقي ترامب من موقع القوة وليس الضعف، وهو الأمر الذي دفع مرشحة الرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون إلى التحذير من العواقب السلبية لإجراء مباحثات مع بيونغ يانغ، مشيرة إلى خطأ التعويل على وقوف المجتمع الدولي إلى جانب ترامب في مجال اتخاذ خطوات ملموسة للضغط على بيونغ يانغ لنزع أسلحتها النووية، في حين أن هذا الأمر غير منطقي لأن للأخيرة علاقات مميزة مع دول عظمى.
رابعا: إن الرئيس الأميركي سيكون ساذجا إذا اعتقد أن مجرد اجتماعه مع نظيره الكوري الشمالي والإعلان عن وثيقة مشتركة لا تعدو كونها خريطة طريق لمفاوضات طويلة، سوف يقنع كيم أون ويدفعه للتخلي عن سلاحه النووي من دون أن يرتبط ذلك بحصوله على ضمانات دولية كافية وقوية تضمن له عدم تراجع أميركا عن الاتفاق والعودة إلى التفكير بش الحرب ضد كوريا، وكذلك الحصول على مكاسب اقتصادية ضخمة تشمل إنهاء كامل للحصار والعقوبات الدولية وغيرها من الأمور الهامة على صعيد العلاقات الدولية، فالرئيس الكوري الذي أرغم ترامب على الجلوس معه، ليس من النوع الذي يتخلى ببساطة عن سلاحه النووي وهو الذي أكد أكثر من مرة أن كوريا الديمقراطية لو لم تكن تملك هذا السلاح لكانت قد واجهت مصيرا مماثلا لمصير العراق وليبيا، ما يعني أن أون يدرك جيدا عناصر قوته، ولهذا لن يفرط بسلاحه النووي إلا إذا حصل على أثمان كبيرة وضمانات دولية تكون روسية وصينية بالدرجة الأولى لضمان التزام واشنطن بتنفيذ أي اتفاق وعدم الانسحاب منه والانقلاب عليه كما حصل في الاتفاق النووي مع إيران، وعدم التفكير بالاعتداء على كوريا في يوم من الأيام لأن ذلك سيقود إلى حرب عالمية لا يرغب أحد بالذهاب إليها.
خامسا: هذه الانعطافة في الموقف الأميركي هل تقود إلى اتفاق سلام شامل، أم تبقى في إطار المناورة وسعي واشنطن إلى الخروج من مأزق عجزها في مواجهة بيونغ يانغ؟.