لقاء القمة الذي عقد في سنغافورة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وزعيم كوريا الديمقراطية كيم يونغ أون وصف باللقاء التاريخي، وعندما يوصف الحدث بالتاريخي فهذا يعني أن الحدث نفسه استطاع تغيير مجرى الأحداث العالمية وصوغ التاريخ من جديد لخدمة البشرية وتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار.
لكن بعيداً عن الضجة الإعلامية التي رافقت القمة وبمعزل عن لغة الجسد التي شغلت مختلف الأوساط فإن ما انتهت إليه القمة المسماة تاريخية، بين ترامب وكيم لا يشي بوجود نية حقيقية لصنع تاريخ جديد لمصلحة الإنسانية.
إن التوتر الذي سيطر على العلاقة بين أميركا وكوريا الديمقراطية لم يكن حدثاً طارئاً بل إن التوتر بين البلدين لازم أكثر من أربعة رؤساء حكموا أميركا وصولاً إلى الرئيس ترامب أي إننا نتكلم عن علاقة متوترة بين البلدين دامت لعقود من الزمن لكن المفاجأة كانت زوال ذاك التوتر بمجرد حصول اللقاء الذي دام ساعة ونصف الساعة فقط بين دونالد ترامب وكيم يونغ أون، بعده أشيع نبأ الموافقة على بنود نزع فتيل التوتر بين أميركا وبين كوريا الديمقراطية الدولة النووية، وهنا لابد لنا من الإشارة إلى أن بنود الاتفاق كتبت على صفحة ونصف الصفحة فقط ليعلن بعدها أن اللقاء كان تاريخياً.
في مقارنة بسيطة بين قمة سنغافورة وبين قمة الدول 5+1 التي أنجزت الاتفاق النووي الإيراني نكتشف أن التفاوض مع إيران غير النووية استمر لأكثر من عشر سنوات وأن كتابة نص بنود الاتفاق مع أميركا وروسيا والصين وأوروبا في جنيف احتاج لأكثر من 18 صفحة كاملة وصف في حينه بالإنجاز التاريخي.
ومع أن الاتفاق الإيراني مع الدول 5+1 وصف بالتاريخي، إلا أن ترامب تنكر للتاريخ معلناً انسحاب أميركا من الاتفاق ما شكل تهديداً جدياً للمصالح الاقتصادية لدول أوروبا مع إيران وهذا ما جعل أوروبا وحيدة في الحلبة تصارع العقوبات الأميركية.
ماذا حقق لقاء القمة التاريخي في سنغافورة؟
أولاً- دونالد ترامب حقق انتصاراً مؤقتاً على الصعيد الداخلي وأشدد على «مؤقتاً» خصوصاً أن ترامب يواجه صعوبات في تماسك فريقه الداخلي بعدما انتهى الأمر بمعظم وزرائه أو مساعديه إما إلى الاستقالة وإما إلى السجن، ثم إن ترامب اضطر إلى التفاوض مع كوريا الديمقراطية بعدما وجد نفسه محاصراً بعوامل داخلية حرجة منها اقتراب موعد الانتخابات النصفية في شهر تشرين القادم التي ستحدد مصير بقائه في البيت الأبيض من عدمه.
ثانياً- رغم أن معركة ترامب مع الأجهزة الداخلية للحكومة العميقة شرسة للغاية فهو يريد التقليل من إنجازات الديمقراطيين وإبراز إنجازاته التي تحمي أميركا، حسب اعتقاده، وهو القائل: إن أميركا دخلت مرحلة آمنة منذ دخولي إلى البيت الأبيض.
أما من الجانب الكوري فإن الدور الصيني والروسي كان فاعلاً وعاملاً مساعداً في إقناع كوريا بالجلوس مع الأميركي إلى طاولة التفاوض رغم الحرب التجارية بين الصين وأميركا، بيد أن الزعيم الكوري كيم يونغ اون استطاع وببراعة لافتة انتزاع اعتراف أميركي رسمي بدور كوريا الديمقراطية كدولة فاعلة وقوية على حين بدت أميركا الدولة المهرولة نحو إنجاز اتفاق تهدئة مع كوريا الديمقراطية بهدف إزالة التوتر بين البلدين.
في مشهد يؤكد اختلال ميزان المعايير أميركياً وازدواجها، نلحظ سعي ترامب إلى عقد اتفاق مع كوريا الديمقراطية الدولة النووية عسكرياً المهددة للأمن الأميركي بينما هو نفسه اتخذ قراراً أحادياً بالانسحاب من الاتفاق الدولي مع إيران، غير النووية عسكرياً، والتي لا تشكل أي تهديد للأمن القومي الأميركي.
إذاً ما الذي جعل ترامب يجنح إلى القبول بالتفاوض مع كوريا الديمقراطية وجعله قابلاً بإعطاء ضمانات أمنية وحوافز اقتصادية ووعود بإزالة العقوبات المفروضة على كوريا الديمقراطية، على حين ترامب نفسه أعلن عن زيادة العقوبات على إيران وزاد من وتيرة تهديداته لإيران أمنياً واقتصادياً بشكل متواصل رغم التزام إيران ببنود الاتفاق النووي في جنيف.
حدثنا التاريخ أن أميركا لا تهرول إلا عندما تشعر بالقوة وبتهديد مصالحها بشكل جدي ومن المؤكد أن قوة كوريا النووية المتعاظمة عسكرياً باتت قوة تؤرق الأمن القومي الأميركي ودفعت بترامب للإسراع إلى عقد اتفاق خفض التوتر في الجزيرة الكورية مع الأخذ بالحسبان أن كوريا لا تمتلك مصادر للطاقة باختصار إنها لغة القوة نعم إنها القوة.
أما بالنسبة لإيران غير النووية عسكرياً ولم تشكل في يوم من الأيام تهديداً للأمن القومي الأميركي لكنها تشكل تهديداً للعدو الإسرائيلي وخاصة أن إيران تعتبر ثاني أكبر مصدر للغاز في العالم وتشهد تطوراً علمياً وتكنولوجياً وعسكرياً متزايداً ما يؤرق إسرائيل وأميركا معاً.
اللافت أن اتفاق سنغافورة لم يأت على ذكر تدمير أسلحة كوريا بل إن الاتفاق ركز على تدمير المفاعلات والمعامل النووية وهذا يعني أن ما أنتج من أسلحة كورية سيبقى الاحتفاظ به من حق كوريا خصوصاً أن بيان الاتفاق لم يتضمن بند تجميد برامج البلوتونيوم واليورانيوم، وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف عقّب على نتائج القمة في سنغافورة قائلاً إن العبرة في تنفيذ الاتفاق محذراً من أن الشيطان دائماً يكمن في التفاصيل.
تصريح لافروف يحمل في طياته محاذير عدة خصوصاً إذا ما نظرنا إلى السجل الأميركي السيئ كما سبق أن فعلت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في عهد جورج بوش الابن مادلين أولبرايت بإفشالها الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع كوريا نفسها إضافة إلى سجل دونالد ترامب الحافل بالانسحابات من اتفاقيات عدة كاتفاقية المناخ مع أوروبا والاتفاق النووي الإيراني.
المشوار الأميركي مع كوريا لم يزل في بداياته والاحتمال الأكثر واقعية هو أن يواجه بعقبات عديدة تؤدي إلى تعطيله كما سبق في العديد من المحطات بين البلدين
نختم بالقول: إن معظم اللقاءات التي وصفت بالتاريخية أسهمت في صناعة التاريخ السيئ.