لم تعد منطقة بعلبك-الهرمل هي ذاتها. تبدّلت موازين الحياة الاجتماعية فيها. تغيّرت أولويات أهلها. الغالبية العظمى من عائلاتها وعشائرها تنبذ "الزعرنات" التي تُلصق زوراً بالعشيرة. يحنّ المواطنون الى الدولة، التي لا يجدونها بينهم، الاّ عند مخالفة بناء، أو حفر بئر ماء، فيستقبلونها برشاوى مالية تتفاوت قيمتها، لغض نظر القوى الأمنية عن مخالفاتهم الإضطرارية. أولئك المواطنون أنفسهم يرفدون سنوياً الجيش ومؤسسات الدولة بفلذات الأكباد. ويتسابقون للإنتساب الى القوى العسكرية والأمنية جميعها. مجرد إحصاء بسيط لعدد المتقدّمين الى التطوع في بعلبك-الهرمل عند كل دورة، يُبرز فعل إنتماء وحاجة أبناء بعلبك- الهرمل إلى الدولة. فهل هم يغيبون عنها؟ أم هي الغائبة عن المنطقة؟.
لو أمّنت مؤسسات الدولة عبر الحكومات المتعاقبة الحد الأدنى لمطالب البقاع الشمالي، في الزراعات أو الوظائف، أو فرضت الأمن، ثم خططت لإنمائها عبر إستثمارات وصناعات وخدمات وسياحة، لما إستطاع "الزعران" من توسيع دائرتهم ونشاطاتهم. لكن غياب الدولة رفد العابثين بالأمن بالدعم البشري المفتوح، على قاعدة: لم يوقفهم أحد عن الفرعنة.
إنه التجاهل المقصود الذي وُجد في بعلبك-الهرمل من أيام تعمّد أجهزة الدولة الأمنية في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، محاربة الأحزاب اليسارية والقومية بلغة العشائر. يومها تمّ شحن العصبيات العائلية والعشائريّة لمواجهة المد الحزبي التنويري. لكن حضور الإمام موسى الصدر في منطقة بعلبك-الهرمل في السبعينات أيضاً، ساهم في الحد من اللغة العصبية العشائرية. فخصّص الصدر خطاباته ومحاضراته ووقته لتلك المنطقة. سعى يومها للاستفادة من شبابها في رصّ صفوف تنظيمه المقاوم، بإسم حركة المحرومين. تقصّد بناء الصداقات مع فعاليات العشائر، لكنه خاطبهم بمفهوم آخر، واستطاع نزع أفكار عصبية عشائرية من عقول شبابهم. أقام المصالحات بين المتخاصمين منهم. نجح الصدر حيث أخفقت الدولة، مستفيداً من طيبة أبناء تلك المنطقة، التي تُكوّن لهم إندفاعاً وإقداماً في الشجاعة والكرم والوفاء. لكنها تحتاج الى توجيه، ورعاية حضن الدولة.
لو كانت الزراعات تكفي، وتؤمّن مستقبل شبابهم، هل اندفعت الأجيال للإنخراط في مجموعات تقودها قلة من المنتفعين بالعبث بالقانون؟ لو كان الأمن مفروضا من الدولة، لجذب الاستثمارات والسياحة، هل كانت الأجيال إنخرطت بأعمال مشبوهة؟ نعود هنا، الى الإشارة للتطوع في المؤسسات العسكرية والأمنية: كل الذين إنخرطوا فيها من أبناء بعلبك-الهرمل، هم نماذج مثلى في تأدية أدوارهم كاملة، ضمن قوانين وأنظمة تلك المؤسسات. قاتلوا على الحدود الشرقية الإرهابيين ببسالة، وتقدموا الصفوف الوطنية بثبات. لولا تطوعهم، لكان معظمهم، حُكماً سينساق الى مجموعات الخارجين عن رعاية الدولة، بفعل الحاجة لا غير. انها متطلبات الحياة، التي لا تبرر العبث بالقانون، أو تجعل عنوان العشيرة ملجأً للهروب منه. لكنها تأتي نتيجة أسباب معيشية بالدرجة الأولى هي التي تدفع بالشباب الى الإنخراط في البدائل المتوافرة، بغياب الدولة.
هذا لا يعني أن كل العابثين بالأمن والقانون هم محتاجون، أو مدفوعون. القلّة منهم تتصدر الواجهة، بعد تزايد ثرواتها، جرّاء تجارة المخدرات، أو عمليات السطو على الممتلكات وسرقة السيارات، إضافة الى الخوّات التي يتم فرضها. كلها تتم أيضا نتيجة تجاهل مؤسسات الدولة.
السارقون والعابثون المنتفعون الأثرياء، معروفون بالأسماء ومحل الإقامة، وبكيفية وآوان التنقل في البقاع. لماذا تقصّر الدولة إذا بإلقاء القبض عليهم؟ الأمر لا يحتاج الى خطة أمنية مؤقتة، بل الى حضور الأمن الدائم، مُعززاً بإنماء قصير وطويل الأمد.
إن فرض الأمن، يجذب السياحة مثلاً الى: قلعة بعلبك، نهر العاصي، نبع اليمونة، المقامات والمزارات الدينية. لكن قلق المواطنين والآتين الى بعلبك-الهرمل، من سرقة سياراتهم في عز النهار، يمنع تلك السياحة، فتدفع المنطقة بكاملها من مفرق ريّاق جنوباً، الى الحدود اللبنانية مع حمص السورية شمالاً، ثمن السرقات.
فرض الأمن سيفتح المجال أمام بناء مصانع، ومعامل، لا يخشى أصحابها من الخوّات التي يفرضها "زعران العصابات"، تحت طائلة الحرق أو السطو أو الاقفال.
إن تأمين زراعات أو مياه الري لمساحات المنطقة، وترشيدها، سيخفّف من البطالة، ويدفع الشباب اليها.
إن مزيداً من الاعتماد على ابناء العشائر والعائلات في بعلبك-الهرمل، في مؤسسات الدولة، وخصوصا العسكرية والأمنية، سيحدّ من التفلت ويمنع "الزعران" من سوق الشباب العاطل عن العمل في مشاريعهم بإحياء العصبية العشائرية.
تلك العصبيات يتنكر لها معظم أبنائها، لكن قلة تستغلها، فتطغى بأعمالها على العاقلين من أبناء العشائر. خصوصا ان توظيف تلك العصبيات يتم في غير مكانه. فتدفع العشيرة او العائلة ثمن مصالح وأخطاء القلّة. ما علاقة أبناء عشيرة بأكملها، في خطأ او جريمة او سرقة ارتكبها احدهم؟ ما علاقة ابناء عشيرة بأكملها، في خلاف بين فردين، بسبب مصالح او مطامع شخصية؟ انها العصبية المدّمرة الجاهلة التي صارت منبوذة من الكثرة في مجتمعاتهم. لكن القلة العابثة بالقانون، تستقوي بالسلاح على غيرها، تمنع صوت العقل، وتفرض الصمت. هذا ما يعاني منه البقاع الشمالي. فليرتفع صوت العقل، وليجر إعتقال العصبيات ونبذها، لأن أجيالاً ستدفع الثمن بمستقبلها، لتصبح مشاريع منضوية في مجموعات خارجة عن المجتمع والقانون. انها مسؤولية الدولة اولا، ثم مسؤولية اهل بعلبك- الهرمل في فرض عودة الدولة بكل مؤسساتها اليهم.