منح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر، وسام جوقة الشرف الفرنسية من رتبة كوماندور، تقديرا لعطاءاته في العلاقات اللبنانية الفرنسية، مشيراً إلى أنه منذ أربعة عشر عاما، سلمك أحد أسلافي، السفير لوكورتييه ، وسام الشرف برتبة فارس. ارادت فرنسا اليوم مرة أخرى أن تكرمك لمسيرتك الاستثنائية في خدمة كنيستك وبلدك والمواطنين والفرانكفونية من خلال هذا التمييز، فإن علاقة الثقة والصداقة العميقة بين فرنسا والكنيسة المارونية هي التي أراد رئيس الجمهورية التأكيد عليها. بعد الدراسات اللاهوتية في جامعة القديس يوسف في بيروت، تم ترسيمك كاهنا في 5 حزيران 1965. تم تعيينك رئيس أساقفة بيروت عام 1996 وبفضل صفاتك وتفانيك أنت مسؤول عن مهام مختلفة داخل الكنيسة وخارجها في الاعمال الانسانية".
اضاف: "وأود أيضا أن أؤكد على التزامك بالحوار. في الواقع، لقد كنت واحدا من أولئك الذين دافعوا مع البطريرك صفير وغيرهم عن مصالحة اللبنانيين خلال الحرب الأهلية وقد دافعت بحماسة عن "الاستثناء اللبناني" للتعايش السلمي الذي هو ثروة هذا البلد ويجعله يلمع في كل مكان في العالم لقد تم اختيارك لحمل الصوت والنموذج اللبناني في جلسات الحوار الإسلامي - المسيحي التي أطلقها رئيس جامعة الأزهر، الشيخ أحمد الطيب".
وتابع: "إن هذا الحوار ضروري حيث أن الطائفية والتعصب أصبحا أكثر نموا في المنطقة. مسيحيو الشرق هم عنصر أساسي في المنطقة. بدونها، جزء من هويتها يختفي. فرنسا مقتنعة بذلك وستبقى ملتزمة حيال الدفاع عنها. هذه هي الرسالة التي كررها رئيسنا، إيمانويل ماكرون ، مؤخرا بقوة خلال زيارة البطريرك الراعي إلى باريس. وأود أيضا أن أحيي "ناقل المعرفة" الذي تجسده. لقد كنت من 1973 إلى 1988، مديرا ثم رئيسا لمدرسة الحكمة في بيروت تحت قيادتك، أصبحت شبكة الحكمة أكثر انتشارا ولديها اليوم سبع كليات من بينها ست فرنكوفونية. في عام 2000، قمت بتأسيس جامعة الحكمة التي هي اليوم شريكة العديد من الجامعات الفرنسية. إن حبك للتدريس لا ينفصل عن شغفك باللغة الفرنسية لقد درست الفلسفة باللغة الفرنسية بالتوازي مع مسارك اللاهوتي لقد حصلت على دكتوراه من جامعة السوربون. أنت مدافع شرس عن الفرانكوفونية. لهذا فمن المنطقي أن تشكرك فرنسا على هذا الإلتزام لنشر لغتنا. هذا الإلتزام الطويل الأمد جعل الفرنسية لغة لبنانية بحد ذاتها. إن الترويج للفرانكفونية هو أحد أولويات رئيسنا الذي سيأتي إلى بيروت للتوقيع على خارطة طريق طموحة في هذا المجال.
وختم: "إن دورك في إشعاع اللغة الفرنسية في لبنان يجعلك شريكا حقيقيا لفرنسا. رجل الحوار والثقافة، أنت تمثل هذا التنوع الذي هو ثروة هذا البلد. بإسم رئيس الجمهورية، وبفضل الصلاحيات الممنوحة لنا، نقلدكم وسام الشرف برتبة كومندور".
وبعدما قلد السفير فوشيه الوسام للمحتفى به ألقى مطر، كلمة أعرب فيها عن مشاعره تجاه هذه "الإلتفاتة التي تبديها نحوه الدولة الفرنسية، للمرة الثالثة على التوالي"، شاكرا الرئيس ايمانويل ماكرون لمنحه هذا الوسام الرفيع، وللتهنئة التي تلقاها من فخامته شخصيا أثناء وجوده في قصر الإليزيه، منذ أسبوعين، في إطار الزيارة الرسمية التي قام بها غبطة البطريرك بشارة الراعي".
كما أعرب مطر عن امتنانه لوزير الخارجية الفرنسي جان - ايف لودريان الذي هنأه واعتبر في الرسالة الموجهة اليه ان " هذا الوسام علامة تقدير أيضا للكنيسة المارونية التي تربطها بفرنسا علاقات عريقة وعميقة".
وتوجه مطر بالشكر الى السفير الفرنسي برونو فوشيه الذي "كان أول من أبلغه خبر منحه الوسام، وقد أبدى تجاهه امتنانا مزدوجا: الأول لمشاركته الصيف الماضي القداس الرسمي الذي تقيمه ابرشية بيروت في عين سعادة منذ قرن ونصف، في 15 آب على نية فرنسا، وكانت تلك الزيارة الأولى للسفير المعين حديثا في لبنان، أما الامتنان الثاني فلموافقته على المجيء الى دار المطرانية اليوم لتعليق الوسام".
وفي سياق عرضه لظروف منحه الاوسمة الفرنسية الثلاثة، قال مطر ان "هذه الأخيرة ليست مكافأة لشخصه، مهما كانت خدماته، بل تندرج في العلاقات التاريخية المميزة بين فرنسا ولبنان. وان خدمة وطننا واجبة علينا جميعا لأن الوطن باق والافراد والاجيال ذاهبون. كما ان علينا ان نحمل الوطن في قلبنا وللوطن ان كملنا في ذاكرته وفي كيانه الذي ينمو نحو المطلق، مستشهدا بقول للقديس اوغسطينوس:" يا رب، ان في تقديرك لاستحقاقنا تكليلا للمواهب التي منحتنا".
واستذكر منحه "وسام الاستحقاق الوطني من رتبة فارس من قبل الرئيس فرنسوا ميتران سنة 1984، في فترة كانت من أصعب فترات الحرب اللبنانية وقد عانت منها، كسواها، مدرسة الحكمة التي كان يرأسها. إن ظروف منح ذاك الوسام لرئيس مدرسة فرنكوفونية عمرها أكثر من مئة سنة تدل على اهتمام فرنسا بلبنان وكنيسته التي تربطها بها صداقة عميقة، وبالقيم الثقافية التي تحملها حضارتنا وتستند الى المواطنية واحترام التعدد الاجتماعي والديني. أما وسام جوقة الشرف من رتبة ضابط فقد منحه اياه الرئيس جاك شيراك في أيلول 2004 أي بعد عشرين سنة من الوسام الأول حيث كان المطران مطر رئيسا لكاريتاس لبنان ثم نائبا بطريركيا للبطريرك نصر الله صفير في زمن من ازمنة لبنان الحساسة حيث كان على لبنان أن يختار بين اتفاق الطائف والسلام الذي يحمله او الإبقاء على الحرب. وقد عمل البطريرك صفير على مواجهة ما يتربص بلبنان ونجح في الإبقاء على وحدة البلاد والتلاحم بين مكوناتها. وقد عمل كل منا بعد 1991 على وضع لبنان على سكة الحياة الطبيعية وصمد الوطن رغم كل شيء، ورغم بعض المواقف الدولية التي شككت احيانا بديمومته معتبرة لبنان خطأ تاريخيا. وهذا ما لم تتبناه فرنسا ولا اللبنانيون ايضا".
وقال مطر: "أمام هذه الوقائع الصعبة لطالما تساءلت لماذا أرادت فرنسا تكريم شخصي الوضيع، أوليس لأني ساهمت في مد جسور الحوار والصداقة مع كل الطوائف اللبنانية، بدون استثناء؟ إن فرنسا وبالفعل فان فرنسا متعلقة بلبنان الموحد هذا وتعرب عن تمسكها بمن يعملون لبلد يعظم الحرية الاخوة والمساواة، وتتمنى ضم جهود اصدقائها الى جهودها هي للعمل معا من أجل عالم أكثر عدالة واخوة. بهذا المنحى يتحول الوسام الفرنسي الى دعوة او نداء. وبالمنحى ذاته نقرأ معنى هذا الاحتفال بمنح هذا الوسام".
وأعرب المطران مطر عن "تقديره للرئيس الفرنسي ماكرون الذي يتطلع الى المستقبل ويراه بمفهوم روحي وعقلي ويلمس معنى الأشياء. وهو رجل عمل ورجل فكر ايضا، وقد كان مساعدا للفيلسوف الفرنسي العالمي بول ريكار، وقد دعا كل الفرنسيين وأصدقاء فرنسا ليتأهبوا للسير من اجل مستقبل مشترك أفضل. هذه الطريق دونها قضيتان عالقتان وقد أعرب عنهما الرئيس ماكرون في حديثه في دير الإباء البرناردين في باريس بدعوة من السلطة الكاثوليكية في فرنسا حيث ان ثمة اموالا لا تزال عالقة بين الجمهورية والكاثوليكية في فرنسا"، داعيا الى "جمع الفرنسيين بروح من السلام والقبول المتبادل وهذا ما يعطي فرنسا ان تتكل على ذاتها في حرب العالم، دون المس بالعلمانية التي تعتبر تقليدا مكتسبا، واكد الرئيس ان الحرب من اجل الانسان تضم ايضا باعطاء معنى الانسان وبالقيم التي تعطي طعما للحياة".
وأضاف: "ان الكاثوليك في فرنسا ليسوا فريقا منعزلا في المجتمع الفرنسي ولكنهم ككل الفرنسيين يعملون ويضحون في سبيل فرنسا كلما طلبت ذلك. وإذ دعا الرئيس الفرنسي الكنيسة الكاثوليكية لتأخذ موقفها وتقول الحقيقة وتبحث عنها مع الجميع ولا سيما في اطار المشكلات الأخلاقية والسياسية. قال ان الكنيسة ليست الدولة ولكنها صاحبة الموقع المهم في المجتمع طالما انها تهتم ببلسمة جراحه وتعمل لتقدم الفرنسيين وطمأنينتهم".
وخلص المطران مطر من كلام الرئيس ماكرون الى "إمكانية تطبيقه في هذا الشرق بحيث يجب وضع الأمور في موقعها بالنسبة للعلاقات بين الدولة والطوائف"، ودعا "مسيحيي الشرق ومسلميه الى تخطي المواجهات لخلق تقارب سلمي ومفيد، فليس للمسيحيين ولا للمسلمين ان يصنعوا مصيرا مستقلا عن بعضهم البعض. ان زمن العزل ولى، فالعالم أصبح معولما وكل تفكير بعزل الآخر او الغائه أصبح مغالطة تاريخية".
وفي تعليق آخر على مواقف الرئيس الفرنسي، قال المطران مطر: "إننا نقدر ما قاله فخامته في 25 أيلول من السنة الماضية في مؤسسة العالم العربي في باريس حيث اعتبر ان مستقبل هذه البقعة من العالم لا يتحقق دون مشاركة كل الأقليات من كل الطوائف ولا سيما المسيحية منها. وان الغاءهم او تجاهلهم - كما يفكر البعض - من شأنه ان يلغي الاستقرار ومشاريع البناء في المنطقة".
اضاف: "التعددية والوحدة في المجتمع الفرنسي، تقابلها تعددية ووحدة في العالم العربي، تلك هي قمة التفكير التي تتطلب حركة سعي حازم وصادق. من هنا فان كل تقدير يأتي من فخامته يتضمن دعوة الى تخطي صعوبات الزمن الحاضر والانفتاح على وعود المستقبل. تلك هي الصداقة الفرنسية اللبنانية التي تتمظهر في هذا الخط ويترجم بعضا منها هذا الاحتفال".
وأنهى المطران مطر مكررا شكره للرئيس ماكرون وللسفير فوشيه على هذا الوسام المشرف، متمنيا للأصدقاء الفرنسيين واللبنانيين الحياة الكريمة.