إسمعوهم... إسمعوا ما يقولون، واقرأوا ما يكتبون من محاضراتٍ في العفَّة، وألِّفوا الحكومة من هذه الميليشيا السياسية التي تتبادل القصف العشوائي، وهي تختبيء خلف أكياس الرمل ونحن نتلقّى الشظايا.
الميليشياويون الذين انتقلوا من خلف متاريس الشارع الى خلف متاريس الحكومة، هم الذين تحوّلوا من مقاتلين الى قَتَـلَة، ومن محكومين الى حكام...
طالعوا كتب علم النفس وتاريخ الأباطرة والسلاطين تُدْركوا، أنَّ الغريزة البشرية ليست خطأً لغوياً يتصحّح بتعلُّم قواعد النحو، إنها نزعة في الدم تخْبُـتُ وتستيقظ، تخْـمُدُ ولا تموت، وتستمر في الذهن الى ما بعد الموت، هذا هو الجنرال التشيكي جان زيزكا Zizka أحد أبرز قادة الحروب في أوروبا عندما تعِبَ من الصراع العنفي، أوصى بعد موته بأن يُصنع من جلده طبلٌ حربي.
والصورة تصبح أكثر وضوحاً عندما نكرر كلام النائب وليد جنبلاط الذي وُزّع بصوته على وسائل الإعلام متَّهِماً «المدرسة الكتائبية» بنزعة القتل ويقول: «لم أستطع أن أجنّب الدروز هذه النزعة، أنا أتحمل مسؤولية المجازر التي حصلت للمسيحيين وأطالب بمحاكمتي ومحاكمة الآخرين، كلّ الزعماء مجرمون بحـقّ الأبرياء، والحلّ السياسي العادل هو بالإقتصاص من الجميع وإلاّ سنبقى في دوامة الحرب الأهلية اللاّمتناهية...»
نعم... لأن الذين يجب أن نحاسبهم في المحكمة كافأناهم في الحكومة، لم يكن هناك حلول بل حروب، نحن على مدى السنين الخوالي، لا نزال نتخبّط في مجموعة من الحروب أقلُّها: حرب التقهقر والتجبُّر، والإستبداد والإستعباد، والفقر والفساد، والظلم والظلمة وحرب المزابل والنوازل، وليس من مـفرٍّ: فإما الهجر وإما القهر...
لا نزال نتخبط في حرب لبنان المدمّر، والمواطن المهجر والشعب المعسكر، ونخوض حرب لبنان ضد لبنان، ننصر الغريب عليه، ونستقدم النازح إليه، ونُضرم النار فيه، ونحن ندور كالفراشات حول ألسنة النار، في دولة متناثرة دويلات، ووطنٍ متنابذٍ مذهبيات، وأرضٍ منقسمةٍ ولايات، وكل ولاية يحكمها باشا، ولم يبق من «كلنا للوطن» إلاّ كلام يتردد خداعاً في النشيد.
نحن شعب أعزل خاض حروباً مع الشيطان فتكسّرت سيوفه في الهواء، وليس في يده من سلاحٍ إلا ما كان في أيدي الهنود الحمر من ريش الطيور الكاسرة... الوردة حسبما يقولون، تتسلّح بالشوك لتحمي نفسها، والثور يتسلّح بقرنيه دفاعاً عن نفسه، والجواد يرفس برجليه، وللحيّة سُمٌّ هو عندها سلاح هجوم وسلاح دفاع... أما عندنا فالورد أصبح بلا شوك، والثيران تتناطح بلا قرون، والجياد محطمة الأرجل، وأبناء الأفاعي يجرعوننا السمّ.
الحق الحق نقول: إن العقدة ليست عقدة تأليف حكومة، بل عقدة وجود حكومة، حكومة تحكم بالعدل والحق والحزم، وبالأخصّ تحكم بالعقل.
فخامة الرئيس.
سمعتك في كلمة الإفطار الرمضاني في القصر تطالب «بعودة العقل» كأنما العقل كان مخدّراً بالخمر فيما هو قابع في دير الصليب، ولأن «شعب لبنان العظيم» كان بالعقل عظيماً وبأهل العلم والمعرفة والثقافة والفكر والأدب والشعر، فلتكن من هؤلاء إذاً، حكومة العهد الأولى، ليرتفع لبنان العظيم فوق لبنان المتاريس وأكياس الرمل البشرية.