تشتعل الجبهة السياسية الداخلية على خلفية تأليف الحكومة الجديدة. وكما في كل مرة، تتداخل حسابات القوى السياسية الكبرى والصغرى بالحسابات المرتبطة بالتطورات الاقليمية والدولية. حتى عندما يكون الملف الاقتصادي والمالي في حالة خطر جدي، يعود الجميع الى البحث عن أسباب سياسية للأزمة الاقتصادية، بينما يتجاهلون السياسات العامة المتبعة في ادارة الدولة ومؤسساتها، وادارة الدين العام والمرافق الاساسية. أما هدف من هم في السلطة، فهو تجنب المحاسبة دائما. يستندون في ذلك، الى تغلب العصبيات الطائفية والسياسية عند الجمهور، فتكون الانتخابات النيابية خالية من اي عملية محاسبة للمسؤول عن تراجع اوضاع البلاد غير السياسية.
اليوم، يتحمل الرئيس سعد الحريري المسؤولية المباشرة عن مهمة تكليف الحكومة. لكنه يعرف، كما يعرف الباقون، انه يتحمل مسؤولية ادارة المشاورات للتوافق على تشكيل حكومة، وانه ليس وحده من يقرر شكل الحكومة. وطالما ان لبنان لا يجيد الفصل بين السلطات، فلن يكون هناك امكانية للحريري ان يشكل الحكومة وحده. فهو، كما رئيس الجمهورية، يملكان حق توقيع المراسيم، لكن ذلك، لا يعني ان بيدهما مصير الحكومة وادارة الدولة.
بناء عليه، ما يجري هو عبارة عن استماع وتقدير من جانب الحريري، ثم عون، لواقع البلاد والقوى السياسية، ثم عكس هذه التقديرات على شكل حصص وحقائب وزارية. لكن المشكلة، كما في كل مرة، تتركز عند طبيعة المعايير المستخدمة من قبل الطرفين خلال الاعداد لتشكيل الحكومة.
وفي حالتنا، يعرف الحريري انه لا مناص له من التوصل الى تسوية سريعا، لان فشله في تشكيل حكومة يهدد بخروجه من جنة الحكم، في لحظة لا تناسبه على الاطلاق. كذلك يعرف عون ان العجز عن تشكيل حكومة لطالما ردد مرارا انها ستكون «حكومة العهد الاولى»، يعني، عمليا، شل عمله كرئيس لبلاد لا تدار فيها المؤسسات بشكل صحيح. الأمر نفسه ينطبق على قوى كثيرة، من النائب وليد جنبلاط، الى التيار الوطني الحر الى القوات اللبنانية، الى حركة امل، الى جميع القوى السياسية التي لا تستطيع، في ضوء تجاربها، العيش يوما واحدا خارج جنة السلطة. وإن أيَّ تسوية بين الأقطاب يمكن أن تدفع الجميع الى قرار بتشكيل فوري لحكومة. لكن اللبنانيين لا يتوقعون من مجلس الوزراء سوى الفشل والمزيد من الغرق في الوحول، وكل إنجاز فعليّ يحقّقه سيكون مفاجأة غير متوقعة.
لكنّ ما يهرب الجميع من مواجهته هو مراجعة نتائج الانتخابات النيابية. وبدل ان يُقدِموا على مراجعات تفضي إلى قبولهم بشراكة بقية اللبنانيين في ادارة البلاد، يصرون على المضي أكثر في سياسة الاحتكار والاقصاء، معتقدين ان ذلك يتيح لهم إصلاح ما أفسدوه في علاقتهم مع جمهورهم. وهنا أصل البلاء.
مجنون من يراهن على قدرة الطبقة السياسية على اصلاح ما خربته ايديها خلال عقود
لقد اظهرت نتائج الانتخابات الاخيرة ان مجموع الاصوات المباشرة التي حصدتها القوى الكبرى تراجع بمقدار كبير، وان طبيعة النظام النسبي مع الصوت التفضيلي فضحت القوى المنتفخة، واظهرت غالبية الاحجام على حقيقتها، ولو ان بعض التحالفات، اعاقت الصورة الكاملة. لكن اركان السلطة كافة، من الرئيس نبيه بري الى الرئيس الحريري الى الرئيس عون الى جنبلاط والاحزاب الكبيرة والقومي فالشيوعي والكتائب، الى المستقلين الذين نسبوا الى انفسهم صفة «المجتمع المدني» واطلقوا شعار الاغلبية الصامتة وتوهموا انهم صاروا الناطقين باسمها، يُدركون تراجع قوة كل منهم. ومَن حافظ او عزز قوته، مثل حزب الله او القوات اللبنانية، لا يمكنه اعتبار ان العصبية السياسية التي رافقت حملته الانتخابية، كافية لتبرير عجزه عن مواجهة متطلبات العيش الكريم لجمهوره.
ربما يجدر بالمواطنين، الذين قبلوا التصويت على خلفية سياسية او عصبية طائفية او مذهبية، الادراك بأن من اعادوا تفويضهم لا يملكون القدرات ولا الكفاءات التي تسمح لهم بتصحيح ما خربوه خلال عقود عدة. وكل رهان على قدرة هذه الطبقة على تصحيح الخلل، هو رهان جاهل ومجنون. ولأن هذا ما حملته الانتخابات، فان هذه الطبقة لا تشعر بأنها تقع تحت اي ضغط حقيقي يجعلها تفكر بإعادة تشكيل السلطة بطريقة مختلفة عما كان سائدا. وهنا، يمكن القول إن باب الأمل غير المغلق تماما، يمكن ان يفتح بطريقة مختلفة، ان بادر من بيده قوة حقيقية الى تعديل جذري في السياسات العامة. وفي هذه الحالة، يجب التوضيح ان الواقعية السياسية تقول بأنّ أمام العماد عون فرصة كبيرة لإزالة كل السياسات التي اتبعت من قبله او من قبل التيار الوطني الحر خلال عام ونصف العام من الولاية الرئاسية، وان يعمد الى القطع مع المرحلة السابقة، واعتماد سياسات مواجهة مع اركان الطبقة النافذة في البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بما في ذلك، بعض مراكز القوى القائمة الآن داخل التيار الوطني الحر.
اما الجهة الاخرى، فهي حزب الله، الذي يحتاج الى مغادرة المربع الذي يسكنه اليوم، لابتداع اطار يجذب جمهور المتضررين من قواهم وطوائفهم وحتى من احزابهم، ويسمح بتشكيل قوة ضغط يستعين بها رئيس الجمهورية لفرض متغيرات كبرى، على الاقربين قبل الابعدين. وحتى ذلك الحين، فان ما يحصل الان في البقاع الشمالي، سيكون نموذجا قابلا للتعميم في البقاع الاوسط وفي عكار ومناطق اخرى في الشمال، اضافة الى ضواحي بيروت البائسة. وعندها، سيكون الانهيار الكبير الذي لا تنفع فيه كل الاموال المجمعة سرقة او ربحا مشروعا خلال العقود الماضية.