بين تكليف رئيس "تيّار المُستقبل" سعد الحريري تشكيل حكومة العهد الثانية بأغلبيّة نيابيّة كبيرة جدًا بلغت 111 نائبًا من أصل 128، والحديث عن تشكيل سريع لحكومة وفاق تُشكّل إمتدادًا للتسوية الرئاسيّة... وبدء خروج أصوات تُشكّك بخلفيات تأخّر رئيس الحُكومة المُكلّف في حسم مسألة التشكيل، وفي تعمّد طرح مسودات غير قابلة للحياة، وحتى تدعو لسحب تكليف الحريري عبر عريضة موقّعة من أكثر من 65 نائبًا وتتحدّث عن وجود بُدلاء كُثر... فرق كبير وتناقض واضح، فما الذي حصل؟.
بحسب بعض الأوساط السياسيّة المُتابعة لمفاوضات تشكيل الحُكومة، إنّ ما يحدث أكبر بكثير من وزير بالناقص أو بالزائد، ويتجاوز "شراهة" بعض الأطراف في الحُصول على تمثيل وزاري يفوق حجم تمثيلهم النيابي، وهو يرتبط مُباشرة بتوازنات سياسية داخليّة دقيقة وحسّاسة جدًا، بأبعاد وإمتدادات إقليميّة واضحة. وأوضحت هذه الأوساط أنّ القصّة ليست في أن يتنازل "الحزب التقدمي الإشتراكي" عن مُطالبته بثلاثة وزراء دُروز وأن يكتفي بوزيرين، ولا في أن يتنازل حزب "القوّات اللبنانيّة" عن مُطالبته بحصّة مُوازية لحصّة "التيّار الوطني الحُرّ" مع حُصوله إمّا على وزارة سياديّة أو على منصب نائب رئيس الحُكومة وأن يكتفي بثلاثة وزراء، ولا في أن يتنازل "تيّار المُستقبل" عن تمثيله الحصري للطائفة السنّية في الحُكومة، وأن يكتفي بمنصب رئيس الحكومة مع ثلاثة وزراء سنّة ووزير مسيحي إفساحًا في المجال أمام تمثيل شخصيّات سنّية خارج عباة "المُستقبل" بوزير في الحكومة إلى جانب وزير سنّي آخر محسوب من حصّة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون. وأضافت أنّ مُوافقة كل من "المُستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي" على ما يُطرح عليهم، يعني عمليًا حُصول الحريري على منصب رئاسة الحكومة إلى جانب ثلاثة وزراء سنّة ووزير مسيحي، وحُصول "القوات" على ثلاثة وزراء، وحُصول الإشتراكي على وزيرين، بمجموع يبلغ 10 مناصب وزاريّة من ضمنهم منصب رئيس الحُكومة، يعني عدم حُصول هذه القوى مُجتمعة على "الثلث الضامن أو المعطّل"، وعدم قُدرتها مُجتمعة على التأثير على قرارات السُلطة التنفيذيّة.
وإنطلاقًا من هذا الواقع، لا يُمكن لرئيس الحُكومة المُكلّف المُوافقة على تحجيم كل من "القوات" و"الإشتراكي" و"المُستقبل" أيضًا، لأنّ من شأن هذا الأمر الإقرار بهزيمة كبرى لفريق سياسي كان يعتبر نفسه حتى الأمس القريب بأنّه يُمثّل الأغلبيّة في لبنان، يوم كانت قوى "8 آذار" تُطالب وتتظاهر وتعتصم لتنال "الثلث الضامن" في أي حُكومة بالتحالف مع "التيّار الوطني الحُرّ"! وإذا كان صحيحًا أنّ هذه التحالفات والتموضعات السياسيّة قد سقطت وتغيّرت لأكثر من عامل وسبب، فإنّ الأصحّ أنّ "حزب الله" لا يزال عند تحالفاته السابقة من دون أدنى تغيير، وما دفاعه عن حُضور "تيّار المردة" في الحُكومة المقبلة، ومُطالبته بتمثيل "الحزب القومي" والشخصيّات السنّية التي تُغرّد خارج عباءة "المُستقبل" أيضًا، سوى دليل على حرصه على حُصول فريقه السياسي على أغلبيّة عدديّة كبيرة داخل السُلطة التنفيذيّة. من جهة أخرى، إذا كان "الكباش" السياسي بين "التيّار الوطني الحُرّ" من جهة وكلّ من "القوات" و"الإشتراكي" من جهة أخرى، يرتبط في جزء منه بصراع نُفوذ على الساحة المسيحيّة الداخليّة مع الأوّل، وبصراع نُفوذ في دائرة "الشوف–عاليه" الجغرافيّة مع الثاني، فإنّه لا يُمكن التغاضي عن التباينات السياسيّة الكبرى التي تضع "التيّار" في مكان مُختلف تمامًا عن موقع كل من "القوات" و"الإشتراكي" بالنسبة إلى العديد من الملفّات الداخلية والقضايا الإقليميّة.
وبالتالي، إنّ المسألة ليست في رغبة رئيس الحكومة المُكلّف بالمُضيّ قُدمًا في التسوية الرئاسيّة التي أعادته إلى منصب رئاسة الحكومة في مُقابل إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة، من عدمه، بل في حجم المُشاركة في الحُكم الذي سيتاح للحريري في حكومة العهد الثانية. وللتذكير إنّ كلاً من "تيّار المُستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي" كانوا قد نالوا في حكومة العهد الأولى ما مجموعه 13 وزيرًا (من ضمنهم رئيس الحكومة نفسه) في مُقابل 17 وزيرًا لباقي القوى السياسيّة، الأمر الذي إعتُبر في حينه إنقلابًا في موازين القوى الداخلية وإضمحلالاً كبيرًا لنُفوذ ما كان يُعرف بإسم "قوى 14 آذار". وليس بسرّ أنّ ما يُطالب به رئيس الحُكومة المُكلّف اليوم، مُشابه تمامًا للحصّة التي كان قد إستحوذ عليها في حكومة تصريف الأعمال الحالية، حيث أنّه يُطالب بما مجموعه 14 وزيرًا مع إستعداده المعروف للجميع للتراجع إلى الرقم 13. في المُقابل، إنّ إصرار "التيّار الوطني الحُرّ" على أن ينال كتلة من ستة وزراء، إضافة إلى خمسة وزراء من حصّة رئيس الجمهوريّة، بالتزامن مع إصرار "الثنائي الشيعي" على أن تتمثّل مُختلف القوى السياسيّة في البلاد بنفس حجم تمثيلها النيابي، يعني عمليًا الحُصول على عشرة وزراء (3 لحركة أمل و3 لحزب الله و1 للقومي و1 لمردة و1 لسنة "8 آذار" و1 لدروز "8 آذار") إضافة إلى حصّة "التيّار" والرئيس، ما يبقي 9 وزراء فقط (أو 10 في أفضل الأحوال) لثلاثي "المُستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي".
وفي الختام، لا شكّ أنّ الصراع على النُفوذ السياسي في لبنان، بدأ يأخذ شكلاً قديمًا–جديدًا، وصارت معه مسألة تشكيل الحُكومة الجديدة على المحكّ. وبالتالي، ما لم يتم تقديم تنازلات مُتبادلة بشكل يُبقي على الحدّ الأدنى من التوازنات السياسيّة الداخليّة، فإنّ أكثر من طرف سيندم على الخيارات السياسيّة التي إعتمدها في المرحلة الأخيرة، وفي طليعتهم "تيّار المُستقبل" الذي لو تحالف مع "القوات" خلال الإنتخابات النيابية في كل من دوائر "جزين–صيدا" و"زحلة" و"بشرّي–الكورة–البترون–زغرتا" وغيرها، لكان وضع "المُستقبل" و"القوات" أقوى نيابيًا، ولكان وفّر على نفسه الكثير من مُحاولات التحجيم التي يتعرّض لها من أكثر من طرف حاليًا!