قرّر حزب الله، كما دائماً، أن يكون حيث يجب أن يكون، في مقدّمة الساعين إلى حلول لأزمة النازحين، كما كان في مواجهة أعداء لبنان، إسرائيل والإرهاب. خطوة حزب الله تأتي في ظلّ «ميوعة» لبنانية، رسمية وسياسية، في التعامل مع الملفّ وتواطؤ قوى داخلية مع قوى دولية لاستخدام ورقة النازحين في اتجاهات متعدّدة
لا تُقرِن القوى السياسيّة اللبنانية مواقفها العلنيّة بضرورة عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، بخطوات عمليّة جديّة توصل إلى هذه النتيجة. الرئيس سعد الحريري على سبيل المثال، لا يترك مناسبةً في أي محفلٍ دوليّ، إلّا ويطالب بعودة النازحين السوريين إلى بلادهم، لكنّه يربط هذه العودة بدور الأمم المتّحدة، وبمصطلحات مثل العودة إلى المناطق «الآمنة»، كشرطٍ لبناني. والحريري، في قرارة نفسه، يعرف أن هذا الربط، وهو تكرار لمعزوفة دوليّة وعربية، هدفه ليس العودة، بل الاستخدام السياسي ضدّ الدولة السورية، طالما أن المناطق «الآمنة» في عُرف هؤلاء، ليست تلك التي استعادها الجيش السوري من قبضة المسلّحين، وأعاد إليها الأمن والأمان.
أما رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع والنائب وليد جنبلاط، فهما جزء من «الجوقة» التي تعتبر أن عودة النازحين إلى المناطق التي سيطر عليها الجيش السوري، «تشكل انتصاراً معنويّاً وديموغرافياً لسوريا وبشار الأسد وتثبيتاً لحقيقة أن التهجير سببه دور المجموعات المسلّحة والتحريض الدولي والإغراءات بالمساعدات المالية». لكنّهما يغلّفان مواقفهما بعاطفة جيّاشة تجاه النازحين السوريين، وبمواقف «أخلاقيّة» تتّهم الأسد بإحداث تهجير سكّاني.
المؤسف، أنه في ظلّ الخطر المحدق بالكيان اللبناني، فإن مواقف بعض الأطراف اللبنانية، يقوم على ثلاث ركائز: الكيد السياسي ورفض التسليم بهزيمة مشروع إسقاط سوريا، الرهانات الخاطئة المستمرّة على تحوّل دراماتيكي في الساحة السورية من خلال الحلّ السياسي المقبل، والأهم، الارتباط بمشروع أميركي ـــــ سعودي، يريد استخدام النازحين ورقة ضغط أوّلاً في الداخل اللبناني ضدّ حزب الله ولتحريك عصبيّات مذهبيّة وطائفية، في مسار مشابه لـ«الاستثمار السلبي» للوجود الفلسطيني في لبنان والذي أدّى لاحقاً إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. وثانياً، في سوريا، مع تصاعد وتيرة الحديث خصوصاً في كواليس مسار جنيف، عن ضرورة مشاركة النازحين السوريين في الأردن وتركيا ولبنان في الانتخابات الرئاسية السورية المقبلة، مع سهولة التأثير بموقف هؤلاء في الانتخابات في تركيا والأردن وجزء منهم في لبنان، للحدّ من اندفاعة الأسد ومنعه من استثمار النصر العسكري في ولاية رئاسية جديدة.
ماذا عن موقف الرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل؟
يشكّل النزوح السوري هاجساً كبيراً لدى عون، مع إدراكه خطورة وأعباء هذا الملّف/ الأزمة. لكنّ تشدّد عون أمام الموفدين الدوليين والسفراء، وطلباته المتكرّرة من هؤلاء المساهمة بمساعدة لبنان في حلّ هذه الأزمة، فضلاً عن خطوات باسيل الأخيرة تجاه موظّفي مفوضية شؤون اللاجئين ولقائه المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي مستورا منتصف الشهر الماضي في جنيف، لا تخرج عن إطار تسجيل المواقف، مع قناعة عون وباسيل بأن القوى والمنظمات الدولية منخرطة في سياسة ممنهجة لإيجاد حلول مستدامة للنزوح السوري في لبنان. وهذه الطروحات، سمعها اللبنانيون أكثر من مرّة، إمّا عبر الحديث عن تأمين موارد عيش ومشاريع اقتصادية طويلة الأمد للنازحين السوريين، أو عبر ربط المساعدات المالية للنازحين، بسياسات داخلية لبنانية تحدّ من موجات نزوح جديدة تجاه أوروبا.
أمّا لبنان الرسمي، أو الحكومة اللبنانية، فتكفي تجربة وزيري الشؤون الاجتماعية بيار بو عاصي، والدولة لشؤون النازحين معين المرعبي، لمعرفة مدى جديّة الحكومة في المعالجة، بالتزامهما سياسة حزب القوات وتيار المستقبل. أمّا تجربة المدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم، كجهة رسميّة لبنانية، فقد أعطت نموذجاً عن تحقيق التنسيق اللبناني ــــ السوري نتائج إيجابية. غير أن تجربة إبراهيم والقنوات الأمنية ــ السياسية التي يعمل عبرها لإعادة النازحين، لا يمكن أن تستمر طويلاً. فالرئيس السوري، يرفض أن يمنح الدول الأوروبية التي لا تزال تكابر في رفضها التنسيق العلني من دولة إلى دولة مع سوريا، تنسيقاً أمنيّاً مع الأجهزة الأمنية السورية، ما لم يكن التنسيق جزءاً من عودة دبلوماسية ورسمية صريحة لهذه الدول للتواصل مع دمشق. وفي حالة لبنان، فالهامش الذي يحظى به إبراهيم مردّه إلى مكانة المدير العام للأمن العام في سوريا وحرص الدولة السورية على تقديم هذا النموذج للبنانيين عن مصلحة البلدين في التعاون الرسمي، وليس كرمى للحكومة اللبنانية أو للذين لا يزالون يرهنون زياراتهم إلى دمشق بالتسويات السياسية المحليّة أو لعدم إغضاب قوى إقليمية ودولية مثل السعودية وأميركا.
كل هذا المسار اللبناني المائع والمتخبّط تجاه أزمة النزوح، لا يوصل إلّا إلى نتيجة واحدة: توطين جزء كبير من النازحين السوريين في لبنان بقوّة الزمن والأمر الواقع.
من هنا، يأتي تحرّك حزب الله سبّاقاً بين القوى السياسية للبحث عن آليات عمل، مستفيداً من إقدامه الدائم على أن يكون «حيث يجب أن يكون يكون»، ومن تحالفه مع سوريا والأهم من وجوده في الميدان السوري.
وقبل إعلان الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله عن تكليف النائب السابق نوّار الساحلي بملفّ النازحين، كانت دوائر الحزب قد انخرطت في إعداد هيكلية عمل إدارية وتنظيمية لإعداد مشروع يخصّ عودة النازحين وبحسب البيان الصادر عن الحزب، أمس، تقرر فتح تسعة مراكز في المناطق التي يوجد للحزب فيها تواجد تنظيمي لاستقبال النازحين وتعبئة استمارات العودة الطوعية لمن يرغب منهم بذلك.
وهذه المراكز موزعة كالآتي: أربعة مراكز في الجنوب (النبطية وصور وبنت جبيل والعديسة) وأربعة مراكز في البقاع (بعلبك والهرمل وبدنايل واللبوة) ومركز في الضاحية الجنوبية مع نشر أرقام هواتف للنازحين الراغبين بالاستفسار(راجع الجدول المرفق).
وتقول مصادر متابعة لـ«الأخبار» إن الهدف الأول هو العمل على النازحين الراغبين بالعودة، قبل البحث في سبل إقناع النازحين غير الراغبين وطمأنتهم بضمانات من الجانب السوري.
ولا تخفي المصادر صعوبة المسؤولية الملقاة على فريق العمل، وتعقيدات العملية اللوجستية، التي تتطلّب تحضير الأسماء ومراجعتها مع الأمن العام اللبناني والجهات الأمنية والرسمية السورية، فضلاً عن الدمار الذي أصاب العديد من المدن والقرى التي تحرّرت مؤخّراً، وعدم توفّر البنية التحتية اللازمة في بعضها للحياة، مع الجهد الذي تبذله مؤسسات الدولة السورية في المناطق المحرّرة لإعادة المتطلّبات الخدمية وإطلاق ورشة البنى التحتية.
غير أن هذا المسار الذي دشنّهُ حزب الله، أمس، لا يعفي الدولة اللبنانية من مهامها، بل على العكس، يضع على عاتقها مسؤولية أكبر للبدء بالعمل أمام النموذج الذي سيقدّمه حزب الله. إذ على القوى السياسية التي لا تزال تكابر في رفض الحلول العملية للأزمة، أن تتذكّر، بأن حزب الله سيعمل في المناطق التي يوجد فيها ولديه إمكانات لوجستية وبشرية فيها، وإذا ما نجح في تحقيق عودة جزء من النازحين، سيبقى الجزء الأكبر في المناطق الأخرى، مثل المتن وإقليم الخروب والشوف وعاليه وكسروان وجبيل ومحافظة الشمال بكاملها.
الوقت لم يعد وقتاً للمكابرة. أمام الحكومة المقبلة امتحان صعب في إيجاد الحلول المناسبة، ليس على طريقة المرعبي وبو عاصي. على الأقل، لا بدّ أن يكون وزير الدولة لشؤون النازحين ووزير الشؤون الاجتماعية، إمّا يمثّلان جهات سياسية ليست على عداء مع سوريا، أو أن يكونا باللّين والعقلانية المطلوبة للتواصل مع السوريين من أجل مصلحة البلدين.
أما الموقف اللبناني الرسمي تجاه سوريا، على الأقل من بوابة النازحين، لا يمكن أن يستمر على هذه الحال. سوريا قرّرت أن لا تقدّم الأمن على حساب السياسة مع الأوروبيين وغيرهم، وحان الوقت الذي تريد فيه من لبنان التعامل معها وفق القاعدة ذاتها. أمّا محرّضو النازحين على عدم العودة، فهؤلاء يشاركون في «مؤامرة التوطين»، عن عمد، وحان الوقت الذي يكفّ فيه العهد عن «المسايرة» ويخطو خطوات جريئة تجاه عودة الحرارة إلى العلاقات الرسمية اللبنانية ــــ السورية، خصوصاً أنه سبق أن وعد بخطوة ما في هذا الاتجاه بعد الانتهاء من الانتخابات النيابية وتأليف الحكومة الجديدة.