لم تكن الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان تشبه سابقاتها. أفرز قانون النسبية نتائج اكثر تمثيلاً للواقع السياسي اللبناني، معطوفة على تفاهمات مسبقة، أطاحت جميعها بالتموضعات التقليدية، خصوصاً بعد محطة معراب بين "القوات" و"التيار الوطني الحر". لكن، لم يصمد الإتفاق كثيراً. حمّله "البرتقاليون"و"القواتيون" آمالاً أكثر من قدرة فريقيه على تحمّل إلتزامات بهذا الحجم. بدت واضحة، في البنود التي أفرج عنها حزب "القوات"، من ضمن ما إحتواه إتفاق معراب. بناء على تلك البنود، ظهر أن "الوطني الحر"إستفاد من إصطفاف "القوات"إلى جانب إنتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون، لكن "العونيين"لم يستفيدوا لاحقاً من تموضع "القواتيين"إلى جانب العهد. دليلهم الأساسي: ملف الكهرباء. هنا تبدو إحدى النقاط الإشكالية.
بالمقابل، يعتبر "القواتيون"أن رئيس "التيار الوطني الحر"وزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل هو من تنصّل من باقي بنود الإتفاق بعد تنفيذ "القوات" التزاماتها، وأهمها انتخابات رئاسة الجمهورية.
إنها لعبة تقاذف المسؤوليات. كل فريق يرمي الكرة في ملعب الآخر، فتزداد التباينات، ولا تنجح معها محاولات وزير الإعلام ملحم الرياشي في رأب الصدع، وإعادة الحياة الى إتفاق معراب.
تتفرج القوى السياسية على المراوحة الحكومية، بعد جمود المعضلة بين "الوطني الحر"و"القوات"، من دون حلول. لكن القوى لن تتفرج الى أمد بعيد على سباق "برتقالي"-"قواتي"، يدفع لبنان ثمنه يومياً، وخصوصاً في إقتصاد البلد الذي بات يحتاج لدفع رسمي وحضن حكومي. المعلومات تتحدث عن ان "الثنائي الشيعي"قد يعيد رسم مطالبه، ورفع سقفها، أسوة بالقوى الأخرى التي تتسابق على الإستحصال على أعداد وحقائب حكومية نوعية. من هنا جاء طرح الأمين العام لـ"حزب الله"السيد حسن نصرالله حول وجوب توحيد المعايير في تحديد الأحجام الحكومية، تمهيداً لرسم مشهد التأليف على أساس المساواة بين كل الأفرقاء، بحسب أعداد نواب الكتل.
جاء بعده كلام المعاون السياسي لرئيس المجلس النيابي وزير الماليّة في حكومة تصريف الأعمال علي حسن خليل يشير الى مضمون مشابه، وعدم البقاء في موقع المتفرجين.
كل تلك الضغوطات السياسية، قد لا تدفع "الوطني الحر"و"القوات" الى التنازل والمضي بالتأليف الحكومي السريع. لأن سباقهما هو أبعد من لعبة "عض أصابع"، ومن يصرخ أولاً.
ينقسم اللبنانيون هنا، في توصيف المشهد الى قسمين:
الأول، يرى أن جعجع وباسيل يتحمّلان وحدهما مسؤولية الجمود الحكومي، نتيجة اصرار كل فرد منهما على مطالبه، وتكبيل رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري بشروطهما المتضادة، وطموحاتهما الرئاسية.
الثاني، يعتبر أن غياب الدفع الخارجي هو المسؤول عن منع التأليف. فلو ارادت العواصم الفاعلة ان تتشكّل الحكومة اللبنانية بسرعة، لفرضت ضغوطاً على الأفرقاء. لكن ذلك لم يحصل، بعكس كل المرّات السابقة في تاريخ لبنان الحديث.
يشير اصحاب الرأي الثاني لعدم قدرة الحريري على تجاوز معراب، رغم تحالفه الضمني في السنتين الماضيتين مع باسيل. السبب برأيهم، أن الحريري لن يُبعد "الحكيم"، كي لا يُغضب السعودية. هو "إضطر" الى إعادة العلاقة بمعراب، ومد اليد الى رئيس حزب القوّات سمير جعجع، ومراعاة الوصايا السعودية بالحفاظ على دور "القوات". ومن هنا جاء عتب "البرتقاليين"على "الشيخ سعد"الذي كان ايضاً أبعد مستشاره نادر الحريري عن لعب اي دور إستشاري وسياسي، كان يساهم من خلاله في تقوية الروابط مع باسيل.
أمام تلك الوقائع، لا يجد اللبنانيون الآن، الاّ تحميل مسؤولية تأخير ولادة الحكومة الى جعجع وباسيل، الذي وصل النزاع السياسي بينهما الى أقصاه. فهل كلّه في إطار السباق الى بعبدا بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون؟
الخطير ان الكلام الشعبي، صار ساخطاً على تلك اللعبة السياسية وأبطالها، لأن ازمات المعيشة تزداد، وكوارث الإقتصاد يرتفع مستواها، بينما السباق السياسي قائم حول مقعد وحقيبة.
ما تشهده مدارس المقاصد من إقفال، عيّنة من مشهد أوسع، في ازمة يتسع مداها بسرعة.