ضُبط القاضي (ن.غ.) بجرم قبض رشىً من مدّعين ومدعىً عليهم. اعترف القاضي المرتشي الذي يشغل منصب مستشار في إحدى غرف «مجلس شورى الدولة»، بما نُسِب إليه أمام هيئة التفتيش القضائي. طُلب منه أن يستقيل، فاستقال. هكذا قرر القضاء منح القاضي المرتشي حصانة تُجنّبه أية ملاحقة قضائية. فضيحةٌ بطلها القضاء نفسه هذه المرة.
لقد مَنحَ حُماة العدل في لبنان أحد القضاة الفاسدين مكرُمة العفو وتجنب العقوبة، ثم أتاحوا له، من خلال تشجيعه على الاستقالة، بدل طرده، أن يقبض تعويض نهاية الخدمة واستمرار حصوله على تأمين الطبابة والاستشفاء والدواء من صندوق تعاضد القضاة. مثله، مثل باقي القضاة. كذلك، تُرك أمامه خيار التعاقد مع الدولة، بصفة مستشار أو ممارسة مهنة المحاماة حتى! كيف يُعقل ذلك؟ قاضٍ ارتشى وقبض أموالاً ونهب من دون حسيب أو رقيب، تُرِك يتنعّم بأموال أخذها من دون وجه حق. ألا يُخوّلنا كل ما سبق باتهام أعضاء مجلس القضاء الأعلى بالتقاعس عن حماية شرف القضاء؟ بل بأخطر من ذلك، بتشجيع آخرين على ارتكابات مماثلة، ومن ثم يُكافأون بالأسلوب الرخيص ذاته؟ وألا تشكل حماية الفاسد، رأس قمة الفساد؟
خبر إجبار القاضي على الاستقالة نشرته «الأخبار» قبل يومين. وأمس، كشف الإعلامي سالم زهران في مقابلة تلفزيونية أنّ «هذا القاضي الفاسد يسكن في شقة قيمتها ملايين الدولارات تعود لأشخاص كويتيين كانوا قد رفعوا دعوى على الدولة اللبنانية، وغنمها القاضي بعد أن ربحوا الدعوى». أكثر من ذلك، علمت «الأخبار» أنّ القاضي نفسه متورّط في ملف مشروع الإيدن باي الذي شُيِّد على أملاك اللبنانيين البحرية في الرملة البيضاء. إضافة إلى قبضه مبلغ يناهز ثلاثة ملايين دولار بدل ثمن الشقة المسجّلة باسمه. فضلاً عن ملفات أُخرى لم يُكشف عنها بعد. أين النائب العام التمييزي القاضي سمير حمود والنائب العام المالي علي إبراهيم؟ ما بالهما لم يُحرِّكا ساكناً؟ لماذا يسكتان عن منح قاضٍ مرتكب عفواً خاصاً؟ المصادر القضائية تتحدث عن أدلة وإقرار من القاضي بارتكاب جرم تقاضي رشوة وتلاعب بقرارات. أين وزير العدل سليم جريصاتي الذي يدّعي الحرص على المرفق القضائي؟ لماذا لم يُصدر أي بيان بهذا الخصوص مثلما اعتاد إصدار بيان بشأن كل كبيرة أو صغيرة؟
يُكرّس مجلس القضاء الأعلى بتساهله مع المرتكبين قاعدة واضحة أمام القضاة: «ارتشوا، وإن أمسكنا بكم تستقيلوا. لن تُحاسبوا إلا بوضعكم خارج السلك». هكذا يضع مجلس القضاء الأعلى القضاة النزهاء في خانة الحمقى، باعتبار أنّ تساهل القيِّمين على القضاء في هذه الملفات جريمة ترتكب بحق باقي القضاة قبل أيِّ أحدٍ آخر. ويُحتّم ما جرى عقوبة زجرية مشددة باعتبار المرتكب قاضياً.
«الضرب بالميّت حرام»، عبارة يُعلّق بها أحد القضاة لدى سؤاله عن القاضي المستقيل. قاضٍ آخر يقول إنّ القاضي المرتكب مُجرم يجب محاسبته، لكنهم يتحدثون عن قضاة آخرين غيره، تسندهم السياسة وغير السياسة، منزَّهين عن المساءلة والمحاسبة مهما فعلوا. يسأل ثالث: «لو كان هذا القاضي مدعوماً من العهد أو من أحد الأحزاب النافذة، فهل كان سيُحاسب؟ ماذا عن باقي القضاة الفاسدين؟».
لقد أصبح حال القضاء أسوأ من حال بعض الأجهزة الأمنية حتى. ورغم أنّ قوى الأمن الداخلي أوقفت ١٥ ضابطاً بجرائم فساد، وخصوصاً حماية تجار مخدرات، لم يترك القضاء بينهم إلا موقوفاً واحداً. وبدلاً من أن تكون القدوة بالقضاء، صار يُفترض الطلب من القضاء أن يحذو حذو المؤسسات الأمنية. على سبيل المثال، تفتح قوى الأمن أثناء محاسبتها لضباطها محضراً عدلياً لتحيل الضابط المرتكب وتضعه بتصرف القضاء لينال جزاءه، بعيداً عن النتيجة التي ترسمها التدخلات السياسية و«الألو» التي لن تترك مرتكباً مدعوماً خلف القضبان. أما في القضاء، فقد أُلغيت المحاسبة من أصله. أي قضية يجد القضاة لها حلاً، في ما بينهم، فهم أهل العدل، وهم أدرى بشعابه وزواريبه التي تحوّل المجرم والمرتكب إلى بريء!
العدلية في الحضيض. لا يختلف اثنان من أهل القضاء نفسه على هذه الخلاصة. لم تدخل السياسة داراً إلا أفسدتها. وهكذا فعلت في السلك القضائي في لبنان. يخرج المُرتكب بقدرة سياسي قادر، وفي المقابل يقبع خلف القضبان من لا حول له ولا سند سياسياً له. بل أسوأ من ذلك، يرى بعض القضاة أن الواقعية تتطلب منهم التعامل بهذه الطريقة. يُعلّق أحدهم، وهو يشغل منصباً أساسياً وحسّاساً، لدى سؤاله عن سبب إخلاء سبيل أحد الموقوفين بالقول: «أنت تعلم أنّ القرار في بعض الملفات سياسي بالدرجة الأولى. إن طلب مني رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء أو وزير العدل توقيف فُلان أوقفه... وإن طلبوا تركه أترُكه. إنه لبنان».