حين ذهبت لزيارة الصديق العزيز عمران الزعبي في المشفى، التقيت في المصعد مع الدكتور مفيد جوخدار وسألته عن حالة عمران، ولم تكن تعابير وجهه مطمأنة لي. وصلنا غرفة عمران ونظرت إلى وجه عمران ونظرت إلى الدكتور متسائلة، فرأيته ينظر إلى المونتور الذي توقفت حركته نهائياً. نظرت إلى وجه عمران السمح وذقنه وتذكرت أنه حالما نلتقي يروي لي قصة معبّرة أو يستذكر أحداثاً تفيد في فهم ما نحن بصدد مناقشته الآن. ملامح وجهه السمحة توحي بالرضى وأنّه غادر مرتاح الضمير لأنّه لم يبخل بموقف ولا بمناظرة ولا بكلمة، وكان واضحاً وضوح الشمس أنّه مع بلده وأرضه وشعبه، وأنّه وفي أشدّ اللحظات حلكةً لم يخشَ في الله لومة لائم ولم يحسب حسابات صغيرة أو شخصية أو حتى عائلية، لأنّه وضع الوطن فوق كلّ اعتبار. حدّقت في ذلك المونتور الذي وشى إلينا أنّ قلب عمران قد توقف عن الخفقان. أهذه هي الحياة إذاً أيّها الصديق العزيز فجأة وببساطة تسلبنا ابتسامتك وكلماتك ومواقفك وتتركنا في حيرة من أمرنا ماذا نفعل في مثل هذه اللحظة الحرجة وماذا نقول لرفيقة دربك "ناديا" التي تنتظر خبراً منا وبناتك المعجبات بوالدهم والساكنات بين حناياه؟، أهكذا إذاً الموت لا يقيم اعتباراً لعمل أو أمل أو رجاء أو مشاعر، أو هكذا إذاً كلّنا عابرون ومواجهون تلك اللحظة التي سوف يتوقف بها القلب عن الخفقان، ومن ثمّ نرحل عن هذه الدنيا كما رحل الأسبقون والأقدمون متأبطين قائمة أعمالنا فقط والتي هي الوحيدة التي تشفع لنا وتجزينا من رحمته. لماذا إذاً كلّ هذا اللهاث وكلّ هذا الطمع بموقع أو منصب أو ثروة إذا كان العمر قصيراً إلى هذا الحدّ وخاطفاً إلى هذه الدرجة؟ وإذا كنّا جميعاً ندرك أنّ مستقرّنا مكان صغير وأنّ ثوبنا لن يتجاوز بضعة أمتار من القماش الأبيض البسيط؟ وإذا كان الموت لا يقيم وزناً للقب أو لموقع أو لسلطة فلماذا يشعر البعض بالتفاخر والتكبّر حالما يصبحون أصحاب معالي فيظنون أنّهم أصبحوا من صنف بشرٍ مختلف ينظرون من علٍ إلى الآخرين ويستكبرون على الفقراء والمستضعفين؟ أو لا يتذكرون أنّهم جميعاً متساوون في تلك اللحظة القادمة لا محالة؟
لقد كان العزاء برحيل الصديق الأستاذ عمران الزعبي شاهداً أكيداً على أنّه احتفظ بأرقى درجات الإنسانية حتى وهو في منصب وزاري رفيع وفي موقع نائب رئيس الجبهة الوطنيّة التقدميّة. فالذين كانوا يعملون مع عمران بغض النظر عن تسمياتهم كانوا جامدي الوجوه على الباب
يقفون لثلاثة أيام ومشاعر الفقد لأب حنون واضحة على وجوههم، وما أن تذكر اسمه حتى تنهمر الدموع من أعينهم. تشعر وأنت تتجه إلى دار السعادة أنّ النساء والرجال يسرعون إلى تلك الدار للمشاركة بعزاء شخص يحبّونه، شخص كان قريباً جداً منهم، شخص لم تغيّره المناصب ولا الظروف بل احتفظ بقربه من زملائه وأصدقائه وخاصةً من الذين كانوا بحاجة إليه، فلم يتوانَ يوماً عن مساعدة المظلوم أو المحتاج وبقي في كلّ الأحوال وكلّ المواقع التي انتقل منها وإليها ودوداً، خدوماً، خلوقاً، نعم الرفيق ونعم الصديق.
مع كلّ بذله وعطائه ووطنيته الصّافية ونصرته للحقّ كان يسألني أحياناً هل قصّرت في شيء؟! هل كان يمكن أن أعمل أكثر ممّا عملت؟! لأنّ ضميره الحيّ كان في تساؤل دائم عن طرق استكمال القيام بالواجب إلى حدّ الكمال. كان زميلاً لي في اللجنة السياسية العليا وكنت ألتقيه دورياً لنحاور المحللين السياسيين وكانت علاقته مع الجميع لها طابع واحد لا يتغير هو الودّ الصادق الصافي والانسيابية في حركاته ومواقفه لأنّ إنسانيته تفوقت على كلّ المناصب والمواقع والاعتبارات. لقد وجدت في حياة الصديق عمران الزعبي ووفاته ومجالس العزاء الحارة والصادقة التي أقيمت له وجدت في كل ذلك درساً لجميع أصحاب المعالي وأنّ الناس قد لا تتذكر أيّ موقع تشغلون ولكنّها تتذكر ابتسامة في وجه محتاج مظلوم وتتذكر كرماً مع السائل يشعره كأنّه هو الذي يعطيك الفرصة كي تكون فاعل خير فيملكه شعور أنّه يعطيك الذي هو سائله، وتتذكر الناس تواضعاً من صاحب شأن مع طفل أو امرأة أو رجل يخشى الاقتراب من أصحاب المراكز وتتذكر الناس وقفة وطنية صادقة ومعبّرة في الظروف الصعبة.
لا شكّ أنّ "ألسنة الخلق أقلام الحقّ" لأنّها الحكم الحقيقي على إنسانية الإنسان وعطاءاته وتواضعه ووده ولأنّها لا تخطأ الحكم أبداً فهي قائمة على العفوية والصدق وعلى إحساس الضمير الشعبي الذي لم يخطأ يوماً.
لقد عبّر الناس لك أيّها الصديق عن امتنانهم لعطاءاتك ووقفتك وتواضعك ووطنيتك وودّك وكرم أخلاقك، فهنيئاً لك ولأسرتك على هذا الذكر الحميد فقد أصبحت سيرتك أنموذجاً لأصحاب المعالي ليقتدوا بها. صدق الإمام الشافعي حين قال:
قد مات قوم وما ماتت فضائلهم وعاش قوم وهم في الناس أموات