لم يعد مجلس شورى الدولة يُشبه الصورة التي صبغتهُ لسنين طويلة. يُريد القيِّمون عليه دفع تهمة الكسل، أو ما تكرس في أذهان كثيرين، بأنه «مقبرة القرارات». صورة لا تتماشى مع جوهر وظيفته: سلطة تكاد مطلقة في الطعن وإبطال قرارات الحكومة والوزراء والمراسيم والمناقصات. اليوم، وبعد حملة التشكيك بمجلس شورى الدولة، جراء إبطاله مناقصة المعاينة الميكانيكية، بات القضاة الإداريون يُحاربون بـ«اللحم الحي». إنجاز إبطال مناقصة المعاينة سرق أضواءه خبر تقديم القاضي نديم غزال استقالته جراء شبهات. وتلك قصة أخرى حيث النقاش لا يزال قائما حول ما اذا كان يتوجب التحقيق معه لا قبول استقالته فقط. وهو ملف لا يزال محل تجاذب مع النيابة العامة التمييزية، ويفترض ان يبت مكتب مجلس الشورى اليوم بطلب القاضي سمير حمود الاطلاع على ملف القاضي نفسه. منذ تولي القاضي هنري الخوري رئاسة مجلس شورى الدولة في الثالث من آب عام ٢٠١٧، أطلق ورشة عمل مكثفة للنهوض بالمجلس. البداية من تكوين أمانة سرّ مبتدعة لم تُكرّس قانوناً، إنما مورست في الواقع، يعاونه فيها أحد القضاة المخضرمين. استلم خوري المجلس الذي يرزح تحت ثقل ٣٤٠٠ طعن نائم منذ سنوات طويلة، ليُنجز خلال أشهر قليلة مع قضاة الشورى ١١٥٠ قراراً في فترة تُعدّ قياسية، خصوصاً أن معدّل القرارات التي كان يبت المجلس فيها سنوياً، في مرحلة ما قبل رئاسته الحالية، تتراوح بين ٧٠٠ و ٨٠٠ قرار، وهذا يعني أنه إذا استمرّت الوتيرة نفسها في العمل والمتابعة، سيُنجز ضعف عدد القرارات أو يزيد.
صحيح أن تعيين هنري خوري، قبل سنة، جاء في موسم العطلة القضائية، إلا أنها كانت فرصة للقاضي القادم من رئاسة الجنايات والرئاسة الأولى في بعبدا من أجل رسم خريطة طريق للأشهر التسعة عشر التي سيقضيها في رئاسة شورى الدولة قبل إحالته على التقاعد في شهر شباط المقبل. حدّد خوري مكامن الخلل في عمل مجلس شورى الدولة، خصوصاً لجهة توفير الآليات التي تؤدي إلى تسريع وتيرة العمل والحد من المداخلات السياسية. بذلك، يكون قد وضع مجلس شورى الدولة على طريق محفوفة بالألغام الإعلامية والسياسية التي قد تُطيح به، إذا تعارضت قراراته مع مصلحة أحد السياسيين النافذين، وهو احتمال ضئيل جداً، في ضوء الدعم الذي يلقاه رئيس المجلس والأعضاء من رئاسة الجمهورية.
أولى الأولويات كانت تعيين قاضٍ في كل غرفة، للتخلص من الضياع الذي نشأ عن تولي قاض واحد أكثر من غرفة في مجلس شورى الدولة. فبات القاضي أحياناً لا يعلم في أي ملف من الملفات ينظر... لكثرتها. كذلك، عمد رئيس مجلس الشورى إلى تقييد تكليف القضاة الإداريين إلى الوزارات، بعدما بات ولاء بعض القضاة لهذه الوزارة أو تلك، أكبر وأقوى بكثير مما هو لمجلس الشورى، نظراً لحجم الوقت الذي يقضيه هؤلاء القضاة في الوزارات المكلفين بتقديم استشارات لها وأحياناً تحول بعضهم إلى شبه موظفين عند هؤلاء الوزراء، ووظيفتهم إيجاد التخريجات القانونية التي تمنع مجلس شورى الدولة من الطعن في مرسوم أو قرار أو مناقصة إلخ...
صدر قرار القاضي خوري بوضع حد لكل تكليف للقضاة في آخر شهر آذار 2018. وحدد التكليف بأنه فقط لمؤازرة الوزير باستشارة على أن تُرسل إلى مجلس شورى الدولة. كذلك حدد موجبات الذهاب للوزارات في حالات استثنائية محددة ومقيدة على أن يكلف كل قاض بوزارة واحدة لا أكثر. علماً أن الاستشارات القانونية التي يقبض بدلها القاضي ما يقارب المليون ونصف المليون شهرياً تخفف من الإجراءات غير القانونية التي يقوم بها الوزير أحياناً. هذه الخطوة، بحسب، مجلس شورى الدولة، من شأنها تحديد إنتاجية القاضي. وبالتالي، فإن رئيس مجلس الشورى يقرر في ضوء إنتاجية القاضي قبول تجديد التكليف أو رفضه.
كما طلب خوري من الهيئة المناوبة في مجلس الشورى العمل بشكل مكثف من أجل إنجاز جميع الملفات المتأخرة قبل بداية عطلة السنة القضائية، علماً أن عددها يبلغ اليوم ٢٧٠٠ ملف. وبالتالي، فإن ذلك لو تحقق سيسمح لقضاة الشورى البالغ عددهم ٥٠ قاضياً إدارياً الانطلاق بالملفات الجديدة.
الخمسون قاضياً سيزيد عددهم في آخر شهر تشرين الثاني المقبل ليصبحوا ٦٦ قاضياً (10 قضاة من معهد الدروس و6 قضاة جاهزين)، وسيتزامن قرار زيادة عدد القضاة مع إطلاق ورشة مكننة المعلومات، على يد إحدى الشركات الخاصة المتخصصة، حتى يصبح متاحاً نشر قرارات مجلس الشورى واجتهاداته على الموقع الإلكتروني للمجلس.
وفي مواجهة تراكم ملفات قديمة في مجلس شورى الدولة منذ عام ١٩٩٠، أعطى رئيس المجلس أمراً ببدء الاتصال بأصحابها لمعرفة إن كانوا يريدون استكمال الطعن أو أنهم عقدوا تسوية أو أن موضوعها صار منتهياً. الهدف هو وضع خريطة طريق تطوي نظرية مجلس شورى الدولة «مقبرة القرارات». يذكر أنها السنة الأولى في تاريخ مجلس الشورى التي يتمكن قضاته فيها من الإجابة على ٩٠٧ آراء إدارية طلبتها وزارات، ناهيك عن ٤٧٠ قراراً إعدادياً.
وماذا عن الطعن المقدم إلى مجلس الشورى بمرسوم التجنيس الذي أصدره رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل نحو الشهرين؟ يجيب القاضي خوري أن الوقت الذي مرّ منذ تقديم الطعن كان لتبادل اللوائح بين الفرق، كاشفاً أنه بصدد تعيين مستشار مقرر لدراسة الملف قبل البت بالطعن. وعن الفترة المحتملة لصدور القرار، يردّ خوري بأنه لا يوجد أمد زمني محدد للبت بالمرسوم، إنما بدء النظر بالملف يفترض انتظار انتهاء مهل التبادل بين الفرق (إجراء إداري ضمن المجلس).
ما لا يمكن سؤاله هو ماذا عن جنرال الوقت؟ الوقت هو التحدي الأبرز أمام القاضي خوري الذي يحال على التقاعد في نهاية شباط المقبل. إنها سبعة أشهر فقط تفصله عن نهاية خدمته العامة. سبعة أشهر يفترض أن يترك خلالها بصمته حتى لا يلعنه من يأتي بعده.