لم تنته تداعيات قمة هلسنكي التي وضعت الرئيس الاميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين وجهاً لوجه للمرة الاولى بشكل رسمي. فبعد ايام على انتهاء القمة، كثرت التساؤلات حول الموقف الحقيقي الذي اتخذه ترامب في الخلوة التي جمعته وبوتين، فهو قال اشياء متناقضة في اقل من يومين كانت كفيلة باعطاء صورة غامضة عن حقيقة ما دار بين الرجلين.
الكلام المتناقض لترامب ليس بجديد عليه، فهو جعله بمثابة "روتين" منذ تسلمه مقاليد الرئاسة وحتى اليوم، فيكاد لا يمرّ يوم الا ويخرج بمواقف مغايرة تماماً لتلك التي كان قد اطلقها قبل ساعات او ايام، انما مسألة روسيا وبوتين لها معيارها الخاص بالنسبة الى الاميركيين. من هنا، يمكن تفهم ما يقوم به ترامب، فهو اعتبر ان لقاءه ببوتين والكلام المؤيد لتحسين العلاقات مع روسيا والقاء اللوم على سلفه باراك اوباما في طريقة "التعاطي الخاطئة" مع موسكو، سيتقبله الاميركيون ويسيرون باعتماد صفحة جديدة تخفّف التوتر والتشنجات القائمة بين البلدين والشعبين، ولكن ردة الفعل القوية التي لاقاها ألزمته بنسف كل ما قاله. ولعل الامر الوحيد الذي لم يقم به بعد (وعلى الارجح لن يقوم به)، هو استهداف بوتين شخصياً. ولا يمكن الركون الى اجابته على سؤال منذ يومين عن تحميله الرئيس الروسي مسؤولية شخصية في محاولات روسيّة التدخل في الانتخابات الاميركية عام 2016، لانه اتبع جوابه مباشرة بالقول ان هذا الامر يعود الى كون بوتين المسؤول عن السياسة في روسيا كما انه (اي ترامب) مسؤول عن السياسة في الولايات المتحدة.
ليس من السهل تفسير تصرفات الرئيس الاميركي ولا مواقفه المتقلبة والتي لم يعهدها العالم من رئيس اميركي سابقاً، انما لا يمكن انكار مدى الضغط الذي يتحمله ترامب داخل اميركا بسبب قضية روسيا وبوتين، وهو عندما عاد من هلسنكي ووجد هذا "اللوبي" في مواجهته، بدأ باطلاق المواقف التي "تريح" الاميركيين عبر اللجوء الى بعض التعابير والقول مثلاً انه اخطأ في الاجابة، رداً على سؤال، بعدم رؤيته سبباً لتدخل روسيا في الانتخابات، واوضح انه كان يقصد انه ليس هناك ما يمنع روسيا من التدخل... كما انه عاد الى الاشادة بالاستخبارات الاميركية وتقاريرها فيما كان قبل ايام قد القى ظلالاً من الشك حولها بتبنّيه نفي بوتين التدخل الروسي بالانتخابات الاميركية، فيما التقارير كانت تؤكد عكس ذلك.
الحبال البهلوانية التي يتعلق بها ترامب، يعتبرها خلاصه الوحيد من رمال بوتين المتحركة التي غرق بها، والتي لم يعرف بعد سبيل الخروج منها منذ العام 2016 وحتى اليوم، رغم كل ما فعله وقاله، ولا يبدو انه في الطريق الى الخروج منها في المدى القريب. ويكفي القاء نظرة على تعامل وسائل الاعلام الاميركية مع القمة، وتوصيفها لترامب والتشكيك به الى حد اتهامه من قبل بعض الصحف والتلفزيونات بأنه "سلّم" الولايات المتحدة لبوتين، ولم يكن على قدر المسؤولية في التعاطي معه، لادراك احد الاسبابالرئيسية التي دفعت الرئيس الاميركي الى تغيير مواقفه بشكل مستمر وفي فترة زمنية محدودة جداً.
لا يزال ترامب يحتفظ بعدد كبير من مؤيديه، ومن المستبعد عدم اكماله ولايته كما يتوقع البعض، ولكن السؤال يبقى في قدرته على البدء باستقطاب المؤيدين من اجل بقائه في منصبه لولاية جديدة-وهو الذي تحمّس للاعلان عن نيته الترشح لاربع سنوات جديدة بعد انتهاء الولاية وعدم رؤيته لاي منافس له داخل حزبه- وكيفية اقناعه للناخبين الاميركيين بأنه لن يكون هناك من تدخل خارجي في الانتخابات المقبلة وبالاخص من روسيا، والسبل الكفيلة باعادة الثقة فيه والنظر اليه على انه قادر على حماية مصالح بلاده امام "الامبراطور الروسي" الذي يشق طريقه بقوة نحو الاعلى.