منذ ما يقارب الشهرين كُلف الرئيس سعد الحريري بتشكيل حكومته الثالثه، بعد أن فاز بتأيد غالبية أعضاء المجلس النيابي خلال المشاورات الرسميه المُلزمة التي أجراها الرئيس ميشال عون مع الكتل النيابية في قصر بعبدا الرئاسي.
استبشر الرأيُ العام خيراً بهذا التكليف الذي هو البدايه لتشكيل الحكومة الجديدة الساعية حكماً فورَ تشكيلها الى انعاش الاقتصاد، ومعالجة مشاكل الدين العام، والعاملة على انماء المناطق، واعادة التوازن الى الأمن الاجتماعي، لإعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها، ومن المؤسف والمؤلم أنّ بعض الكتل السياسية اثّرت مصالحها وأحلامها وتطلّعاتها الشخصية على مصالح البلاد والعباد، وتفنّنت بكيدية وأنانية بوضع الشروط والمطالب التعجيزية لإعاقة تشكيل الحكومة العتيدة، بل بدأت توحي للرأي العام بأنها هي مَن تقرّر عدد الوزراء لهذه الكتلة النيابية أو تلك، وتجاوزت بأحلامها وطموحاتها غير المشروعة كل أسس ومرتكزات العيش الوطني، بل إنها تمادت على الدستور والميثاق حتى كادت أن ترفع شعار (انا الدولة والدولة انا).
لقد أكّدت وثيقة الطائف التي دفع اللبنانيون ثمنها دماءً وحروباً ودموعاً وألماً من كل اللبنانيين أنّ الرئيس المكلف هو الذي يشكّل الحكومة بعد لقاءات غير ملزمة مع الكتل النيابية وبالتشاور مع رئيس الجمهورية، والتشاور مع رئيس الجمهورية لا يعني التشاور مع الأبناء والأحفاد والاصهار وحتى أقارب الأقرباء، وإنما يعني منطق الدولة وقوانينها يجب أن تسود، وأنّ منطق المحاصصه المرفوضة يجب أن ينتهي، وأنّ ثقافة المواطنة هي من أولويّات الحكم الرشيد الذي انتظره اللبنانيون منذ امد طويل.
ويرى المراقبون والمتابعون للشأن اللبناني أنّ الشروط التعجيزية والمطالب المتعدّدة، ووضع العصي في الدواليب هي مؤشرات حقيقية لتجاوز صلاحيات ومهام الرئيس المكلف، وعلى القوى المعيقة أن تدرك أنّ الرئيس المكلف سعد الحريري بقدر ما هو مرجعية وطنية ذات بعد عربي، هو الممثل الشرعي لأكبر كتلة إسلامية ووطنية في لبنان لا يمكن تجاوزُها أو تخطيها من خلال المناورات واصطناع المشاكل وتحديد المهل الزمنية للتكليف، وعلى الذين وضعوا العراقيل والشروط لتأخير تشكيل الحكومة أن يراجعوا حساباتهم بدقة وحكمة وموضوعية، وأن يدركوا بأن الرئيس سعد الحريري غير قابل للكسر أو التراجع أو الحصار، ولا يمكن للعهد أيّاً كان أن يكون قوياً أو مميّزاً أو قابلاً للازدهار بدون حكومة وطنية يقودها الرئيس سعد الحريري بالتعاون مع رئيس الجمهورية.
ويؤكد المراقبون والعديد من المتابعين للشأن اللبناني محلياً وعربياً ودولياً أنّ المراهنه على المحاور الاقليمية لتحقيق مكاسب طائفية أو مذهبية لن يُكتب لها النجاح، مهما أعاقوا وحاصروا وأخّروا ولادة الحكومة التي يريدها الرأي العام اللبناني وينتظرها أصدقاء لبنان لدعم مسيرة الدولة اللبنانية وبناء مؤسساتها الشرعية لتبقى وحدها صاحبة السلطة والسيادة على كل الأراضي اللبنانية.
من هنا، يتوجب على بعض الكتل النيابية أن تخرج من كهوفها المذهبية وعقدها الطائفية، وتطلعاتها الشخصانية ليدخل الجميع في رحاب مصلحة الوطن، لأنّ الازمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد وأزمة البطالة وزيادة الدين العام لم تعد تتحمّل الدلع السياسي وتصفية الحسابات الانتخابية، فالأوطان لا تُبنى بمنطق الغلبة وإنما تُصان بوحدة أبنائها وتقديم المصلحة الوطنية، على كل المصالح أيّاً كانت.
وعلى المعنيين بالشأن العام أن يدركوا أنّ المواطن لم يعد يهتم بعدد وزراء هذه الكتلة أو تلك وإنما يريد وطناً تُحفظ فيه كرامة المواطن ويوقف فيه نزيف الهجرة، وازدياد البطالة وارتفاع الاسعار وتفشي المخدرات وإنهيار القيَم الأخلاقية التي باتت تشكّل خطراً داهماً على المجتمع اللبناني لكل مكوّناته، وعندها لن تنفع الغرائز الطائفية والانحرافات المذهبية والتطلعات المناطقية.
لبنان بحاجة إلى رجال دولة يترفّعون عن كل مصالحهم الشخصية، رجال دولة يتطلعون لبناء لبنان وطن الرسالة، لبنان النموذج في المنطقة العربية التي تعاني الازمات والحرائق المشتعلة، فهل تستجيب القوى والتكتلات النيابية لنداء المواطنين الذين سئموا المناكفات والترهات التي أنتجت أزمة النفايات وتلوّث الشاطئ حتى كاد أن يكون لبنان في مصاف الدول الفاشلة.