حاولت الولايات المتحدة الأميركية، بعد انسحابها من الاتفاق النووي الموقع مع إيران من قبل مجموعة السادسية الدولية والمصادق عليه من مجلس الأمن، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بالعمل على العودة إلى سياسة الحصار الاقتصادي لكن بإجراءات أكثر شدة من خلال منع إيران من تصدير نفطها وغازها إلى الخارج، عبر الضغط على الدول والشركات الدولية للامتناع عن استيراد هذه المادة الحيوية بالنسبة للاقتصاد الإيراني.
غير أن هذه المحاولة الأميركية لعزل إيران وخنقها اقتصاديا وماليا بحرمانها من أهم مصادر دخلها من العملات الصعبة، المتأتية من بيع النفط والغاز، يبدو أنها لم تنجح في بلوغ أهدافها. لقد واجهت الاستراتيجية الأميركية التي أعلن عنها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ، بهذا الخصوص، التعثر والفشل من مراحلها الاولى، الأمر الذي كانت قد توقعته مجلة فورين بوليسي الأميركية في 22/5/2018 عندما وصفت هذه الاستراتيجية بأنها "احلام وأماني أكثر من كونها استراتيجية" وأشارت إلى أنه " مما يزيد الطين بلة أن البيت الأبيض لا يبدو أنه سيكون قادرا على التعاون مع أوروبا من أجل تطبيق عقوبات على ايران" ولفتت إلى أن إدارة الرئيس ترامب أظهرت مرة أخرى ضعف خبرتها في التعامل مع الملفات الكبرى ، فقائمة المطالب التي قدمها ترامب غير واقعية سواء من حيث الوسائل أو الغايات، فالأصل أن قضية كوريا الشمالية يجب أن تكون قد علمت أن التفاوض يبدأ تدريجيا.. الآن عدنا إلى لا شيء وظلت إيران مشكلة والولايات المتحدة باتت أكثر عزلة وأقل ثقة في الخارج.. ما عرضه بومبيو لا يمكن اعتباره استراتيجية للنجاح وإنما استراتيجية للكوارث".
لكن ماهي العوامل التي تدلل على فشل وتعثر استراتيجية واشنطن بفرض الحصار النفطي على ايران، وتؤكد ما توقعته بوليسي من نتيجة كارثية على أميركا؟.
من خلال قراءة مواقف الدول الأساسية المعنية، والتي من دونها لا يمكن أن تنجح استراتيجية الحصار الأميركية في بلوغ ما تريده، يمكن تسجيل العوامل التالية:
العامل الأول: رفض الاتحاد الأوروبي تأييد الموقف الأميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي، وتجسد ذلك من خلال اجتماع الخماسية الدولية، الذي ضم الدول الموقعة على الاتفاق النووي ومن ضمنها فرنسا وبريطانيا والمانيا، وأعلن على أثره استمرار التزام هذه الدول بالاتفاق واستعدادها لتقديم الضمانات لإيران.
وجاء التأكيد الثاني من قبل وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، عقب اجتماع وزراء خارجية الاتحاد في بروكسل بتاريخ 16/7/2018 حث أعلنت عن " إقرار آلية قضائية لحماية الشركات الأوروبية العاملة في إيران أو المتكاملة معها عبر تحديث نظام الفرملة، الذي سيكون نافذا من تاريخ السادس من آب المقبل وسنتخذ كل الإجراءات لجعل إيران قادرة على الاستفادة اقتصاديا من رفع العقوبات".
أما التأكيد الثالث فقد جاء على لسان وزير الخارجية الفرنسي جان لودريان الذي أشار إلى تعاون أوروبي مع الصين وروسيا على إيجاد آلية مالية تضمن لإيران أن تبقى قادرة على تصدير نفطها، أي شراء النفط الإيراني باليورو بدلا من الدولار، ما يجعل التحويلات المالية تتم بين المصارف المركزية في أوروبا ومصرف إيران المركزي، من دون المرور بالبنك الفيدرالي الأميركي في نيويورك.
العامل الثاني: قرار روسيا الحازم بمعارضة الانسحاب الاميركي من الاتفاق والإجراءات التي اتخذتها واشنطن ضد ايران، والتأكيد على التزام موسكو بالاتفاق وان إيران قد احترمت كامل التزاماتها فيه، وتم ترجمة هذا الموقف الروسي بالرد على العقوبات الأميركية بتعزيز العلاقات الاقتصادية بين روسيا وإيران وذلك خلال زيارة مستشار القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي أكبر ولايتي إلى موسكو مؤخرا واجتماعه مع الرئيس فلاديمير بوتين، وعودته إلى طهران بحزمة من الاستثمارات الروسية في إيران قدرت بنحو 100 مليار دولار، مما شكل ردا مباشرا وعملي على الاستراتيجية الأميركية ضد إيران.
العامل الثالث: موقف الصين بمواصلة الالتزام بالاتفاق وتعزيز شراكتها الاقتصادية مع ايران، والإعلان عن عزمها زيادة مستورداتها من النفط الإيراني، فيما ستحل شركة صينية محل شركة توتال الفرنسية التي انسحبت من إيران خوفا من العقوبات الأميركية بسبب حجم مصالحها في الولايات المتحدة.
العامل الرابع: إعلان الهند ( التي تستورد نحو 12 بالمئة من نفط ايران ) على لسان وكيل وزارة خارجيتها رانجان ماثاي " أن الحكومة الهندية لا تنوي خفض وارداتها النفطية من إيران بسبب الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة ضد ايران". فيما أكد رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ خلال مؤتمر صحفي مع المستشارة الألمانية ميركل في برلين " اننا نحترم حق إيران في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وان الهند تؤيد الحل السلمي للقضايا بين إيران والغرب وخصوصا الولايات المتحدة واوروبا".
العامل الخامس: تراجع السعودية عن رفع إنتاجها من النفط مليوني برميل يوميا استجابة لطلب الرئيس الأميركي ترامب، وذلك نتيجة تحذيرات من الجزائر وفنزويلا من العواقب الوخيمة التي ستترتب عن رفع الإنتاج وخرق اتفاق الجزائر لمواصلة دعم أسعار الخام.
العامل السادس: قرار طهران بإغلاق مضيق هرمز بوجه ناقلات النفط إذا نفذ الغرب قرار منع تصدير النفط الإيراني، وهو أمر تعتبره إيران بمثابة إعلان حرب ضدها سترد عليه بالمثل. ومعروف أن إغلاق مضيق هرمز سيؤدي إلى توقف شحن 17 مليون برميل تنقلها الناقلات من الخليج والعراق إلى أنحاء العالم عبر المضيق، مما سيحدث التهابا في أسعار النفط وفوضى في السوق النفطية، تهدد بأضرار كبيرة للعديد من الدول التي لا تستطيع تحمل ارتفاعا في سعر برميل النفط يصل إلى 250 دولار وأكثر. فيما دول المنطقة المصدرة للنفط سوف تتعرض لخسائر كبيرة نتيجة توقف صادراتها.
هذه العوامل مجتمعة جعلت من غير الممكن عمليا نجاح الاستراتيجية الأميركية حظر تصدير النفط الايراني، ودفعت وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين إلى القول:" أن واشنطن ستدرس إعفاءات في حالات معينة للدول من الحظر على النفط الإيراني وذلك لسببين: تجنب التأثير في أسواق النفط العالمية لدى فرض العقوبات، وحاجة تلك الدول إلى مزيد من الوقت".
طبعا هذا التصريح شكل مؤشرا قويا على الصعوبات الكبيرة التي تواجه الاستراتيجية الأميركية وعدم إمكانية إلزام دول العالم بها، مما يدفع إلى الاستنتاج بأن سياسة الحصار الاقتصادي لم تعد ممكنة وهي تواجه طريقا مسدودا، والإصرار عليها لن يقود سوى إلى عزلة أميركا والتقليل من ثقة العالم بها، لاسيما وأن هذه السياسة تشكل انقلابا على اتفاق دولي من دون أي مسوغ كما تؤكد الدول الأوروبية الحليفة لأميركا.
هكذا يمكن القول إن السحر انقلب على الساحر، فسعي واشنطن إلى عزل إيران تحول إلى عزلة لأميركا كشفت عن المزيد من عجزها وتراجع هيبتها وسطوتها على المسرح الدولي، وهو ما عكسته القمة الروسية الأميركية.