أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في عظة قداس الاحد الاحتفالي الاول في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان، بعنوان "ابن الانسان جاء ليبحث عن الضائع ويخلصه"، أن "لقاء الرب يسوع بزكا كان لقاء وجدانيا بدل حياة زكا العشار إلى الأفضل، كانت كافية الرغبة الصادقة عنده ليرى يسوع، فتسلق جميزة لهذه الغاية بسبب قصر قامته، فرآه يسوع بنظرة القلب، وكافأه بعزمه على دخول بيته، وهناك تم اللقاء الوجداني بينهما، فوقف زكا معترفا بخطيئتين وملتزما بتعويضين الخطيئة الأولى حجب المساعدة عن الفقراء والتعويض إعطاؤهم نصف مقتنياته"، موضحاً أن "الخطيئة الثانية ارتكاب الظلم بحق من كان يجبي منه أكثر من العشر والتعويض برد المسلوب له أربعة أضعاف، عندها أعلن الرب يسوع "اليوم دخل الخلاص لهذا البيت، فإن ابن الإنسان جاء ليبحث عن الضائع ويخلصه، لو لم يلتق زكا العشار يسوع، لما أدرك واقع خطيئته، ولما أصلح ذاته. ذلك أن الرب يسوع نور يكشف لنا مكنونات قلوبنا ونفوسنا، الخفية عنا بسبب المصالح الدنيوية، والإمتلاء من الذات، التي هي كالمرض الخبيث تتآكل الإنسان من الداخل، من دون أن يشعر".
ولفت الراعي الى أنه "يسعدنا أن نحتفل معكم بقداسنا الأول في هذا الكرسي البطريركي في بلدة الديمان العزيزة وقد جرت العادة أن يشارك فيه أهالي الديمان الأحباء، من مقيمين ومنتشرين، فإني أحييكم جميعا، ونحن وإياكم نسهر على جذورنا في الوادي المقدس عامة، وبخاصة في الكرسي البطريركي في قنوبين، حيث عاش البطاركة مع النساك والمتوحدين وسكان الوادي أربعماية سنة في عهد العثمانيين، حفاظا على الأغليين: الإيمان الكاثوليكي والإستقلالية"، مشيراً الى انه "في قنوبين تكرم القديسة مارينا حيث مغارتها والكابيلة الحاملة اسمها، وفيها يرقد سبعة عشر بطريركا. وقد زارتها الأسبوع الماضي بجثمانها الذي تبرك منه المؤمنون بالآلاف، أتى البطاركة إلى قنوبين سنة 1440 مع البطريرك يوحنا الجاجي، لأن فيها حصنا منيعا محاطا ببسالة أهالي إهدن وبشري وجبتها وحصرون والحدث الذين قاوموا المماليك في ربيع وخريف 1282، بقيادة الشهيد البطريرك دانيال الحدشيتي، ولو أن الغزاة أحرقوا وهدموا وضربوا الأعناق بالسيف، كما يروي الأستاذ أنطوان فرنسيس في كتابه المقتبس من كتابات المكرم البطريرك أسطفان الدويهي، وهو بعنوان "العاصية، رواية تاريخية"، الذي تم توقيعه بالأمس في حديقة البطاركة، وإني أهنئ أهالي الديمان على الكنيسة الرعائية الجديدة التي يسخون في إنجازها مع مجمعها، كافأهم الله بفيض من نعمه وبركاته. ونرحب بيننا بمتطوعي الدفاع المدني، ونثني على جهودهم وتضحياتهم في سبيل خدمة المجتمع اللبناني".
وذكر "أننا نأمل من الدولة إستجابة مطالبهم المحقة، لكي يعيشون بكرامة مع عائلاتهم، لكونهم جهازا أساسيا لا غنى عنه. وإننا نذكر بصلاتنا شهداءهم الذين وقعوا أثناء اداء الواجب"، منوهاً الى أن "جماعة "أخوة شارل دي فوكو العلمانية" تعقد لقاءها العالمي العاشر في هذه الأيام في لبنان ولأول مرة في بلد عربي، بموضوع: "تعالوا نسير في الرجاء، متجردين، مستنكرين، ومعلنين، هذا الموضوع، المتضمن أربع كلمات والداعي للسير بموجبها، يساعدنا لنقرأ تعليم إنجيل اليوم، فالرجاء نافذة في حياة كل إنسان تنفتح على بعدين: البعد الأول، الثبات في الإيمان والقيم بوجه المصاعب والمحن والمعاكسات، والبعد الثاني، انتظار تجليات الله في حياتنا، بحيث نترك له مجالا ليتدخل، مثلما فعل زكا العشار بتسلق جميزة ليرى يسوع، وهو فعل تواضع قام به بروح الأطفال والتجرد فضيلة أساسية، ولا سيما عند أصحاب السلطة سواء في الكنيسة أم في الدولة. بها يتمكن الإنسان من التغلب على ذاته وإصلاحها وتحريرها مما يأسرها من مصالح صغيرة وأميال منحرفة ومكاسب غير مشروعة، هكذا فعل زكا العشار الذي كان أسير غناه ومرتبته كرئيس العشارين، إذ تخلى عن أنانيته وصم أذنيه عن سماع وجع الفقراء، وعن الإحتفاظ بمال الظلم الذي كان يسلبه في جباية العشر".
وتابع بالقول "اجل ، لا تستقيم الحياة الوطنية ومسيرة الدولة، إذا لم يتصف أصحاب السلطة بفضيلتي التجرد والتواضع. هذا هو أصل الأزمة السياسية الراهنة عندنا، أعني أزمة تعثر تأليف الحكومة، أليس لأن كل فريق متمسك بمصالحه وحصته ومكاسبه وحساباته؟ فلو تجردوا وتواضعوا، مثل زكا العشار، لتألفت الحكومة للحال ولو تحلوا بفضيلة الرجاء واتكلوا على عناية الله، وأفسحوا له في المجال ليظهر تجلياته، لاتخذوا قرارات شجاعة وانتصروا بها على ذواتهم، كما فعل زكا. إن المتجرد المتواضع يترك مجالا لعمل الله في حياته، مع ما له من نتائج عظيمة لخيره وخير الجماعة"، مشدداً على أنه "تدعونا فضيلتا التجرد والتواضع إلى موقفين الاستنكار والإعلان. نستنكر الافراط في استعمال السلطة السياسية، استبدادا أو ظلما أو إستيلاء على المال العام، أو وسيلة لمكاسب ومغانم وأرباح غير مشروعة، فيما هي فن شريف في خدمة الخير العام على كل المستويات، ونستنكر إهمال الإقتصاد، عصب البلاد، في كل قطاعاته، وبالتالي إفقار الشعب، وإيقاع الدولة في عجز مالي خطير، وفتح باب الهجرة على مصراعيه بوجه شبابنا المثقف وقوانا الحية. ونعلن أن الشعب اللبناني فقد الثقة بالسلطة السياسية اليوم أكثر من الأمس، فبالأمس أقل من خمسين بالمئة شاركوا في الإنتخابات النيابية، وأكثر منهم لم يمارسوا هذا الحق لعدم الثقة. واليوم، إذ يرون هذا التراجع في الحياة السياسية بعد الانتخابات ازدادوا عدم ثقة"، متسائلاً "فإلى أين نحن ذاهبون ببلادنا؟ ليست الدولة ملك أحد، بل أصحاب السلطة مؤتمنون عليها وموكلون، والمطلوب من الوكيل أن يكون "أمينا وحكيما، فيما هو مقام ليعطي الشعب طعام حاجاته"، كما يقول الرب يسوع ونعلن عدم القبول بهذه الحالة وبهذا النوع من الممارسة السياسية، وعدم القبول بتراجع لبنان الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والثقافي، وعدم القبول باستباحة المبادىء والمعايير الدستورية والقوانين، وبممارسة الظلم من خلال عدم تطبيق العدالة وبخاصة قرارات مجلس شورى الدولة من الوزارات المعنية، كما نشهد في عدد من القضايا، فإلى من يلجأ المظلومون لينالوا حقوقهم"؟
وختم الراعي بالقول "أجل، الإنسان بحاجة إلى خلاص ولهذه الغاية أصبح الله الابن إنسانا، يسوع المسيح. فبنعمة هذا الخلاص تاب زكا العشار، وبدل مجرى حياته إلى الأفضل، وفي الوقت عينه أثمرت توبته بوهب نصف أمواله للفقراء، وبإعادة ما سلبه من أي إنسان أربعة أضعاف. فللخلاص الشخصي ثماره الجماعية. نسأل الله، بشفاعة أمنا مريم العذراء، سيدة قنوبين، لنا ولجميع الناس، نعمة التوبة لخلاصنا وخير الجماعة. فنستحق أن نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس".