عشرون عاما مضت على التنقيب في حفرية "الفرير" الاثرية في شارع الشاكرية في صيدا القديمة والتي يقوم بها فريق البعثة البريطانية بالتعاون مع المديرية العامة للاثار، وما زالت الاكتشافات تتوالى عاما بعد آخر، تزامنا مع قرب الانتهاء من "متحف صيدا الوطني" الذي يشيد بهبة كويتية قيمتها مليون وسبعمئة الف دولار، والذي يقام فوق جزء رئيسي فوق الموقع، ليكون اول متحف في لبنان يجمع بين المقتنيات الاثرية والحفريات التاريخية معا.
وجديدها هذا العام أمران: الاول اكتشاف تحصينات عبارة عن بنى دفاعية لمدينة صيدا، بين القلعتين البريّة والبحريّة، هي ابراج نصف دائريّة بارزة ومتباعدة عن بعضها البعض مسافة 55 مترا وكانت تحمي تلك التحصينات، وقد أظهرت بعضاً من تلك التعديلات التي كانت قد أُجريت على البرج المتواجد في الطرف الشمالي من الموقع بالقرب من متحف صابون عودة، مع الإشارة الى أن هذا البرج إستُخدم لفترة قصيرة، وينتمي للعصر الاسلامي ولم يستعمل لوقت طويل وهُجِر خلال الفترة المملوكيّة، ليُعاد تصميم المساحة الداخلية له كمخزن مقبّب.
والثاني، ان البحوث المكثّفة أظهرت ان أصل اللبناني الحالي متصل وبشكل مباشر بالكنعانيين، وذلك بناء على فحوص الحمض النووي التي أجريت مؤخرا في بريطانيا من مدافن الكنعانيين وتمت مقارنتها مع فحوص مماثلة للبنانيين معاصرين".
وأكدت رئيسة بعثة المتحف البريطاني المشرفة على اعمال التنقيب في "موقع الفرير الأثري" في صيدا الدكتورة كلود ضومط سرحال، انه إذ "لم يعد هناك أدنى شك في الإعتقاد الراسخ أن الفينيقيين هم بالفعل أحفاد الكنعانيين"، موضحة "في عام 2017 بدأ تعاون مع علماء من معهد سانجر وجامعة كامبردج في المملكة المتحدة لدراسة الحمض النووي لهياكل عظمية عُثر عليها في موقع الحفريات في صيدا، حيث يعتبر هذا المشروع السبّاق لجهة محاولته إستخراج ودراسة الحمض النووي لأشخاص سكنوا لبنان ودفنوا فيه منذ 4000 عام، وهي منطقة جغرافية تتمتع بمناخ دافئ، ولكنها غير مناسبة للحفاظ على الحمض النووي القديم. ومع ذلك، فقد نجح الفريق في دراسته حيث تمكن من معرفة تسلسل الجينات الكامل لعيّنات أُخذت من خمسة أفراد عاشوا خلال العصر الكنعاني في صيدا. وقد فتحت هذه المعلومات نافذة على الماضي تُظهر لأول مرة أن سكان صيدا الذين عُرفوا باسم الكنعانيين (ثم الفينيقيين فيما بعد)، انحدروا من خليط بين السكان المحليين والمهاجرين الشرقيين ربما من منطقة زاغروس (منطقة جبليّة في جنوب غرب إيران) الذين وصلوا إلى بلاد الشام قبل حوالي 5000 عام.
وأضافت: ان موقع الفرير قد أثبت بأنه مصدر فريد وغني جداً للمعلومات حول الأنشطة الطقسية القديمة وتطورها مع مرور الزمن. حيث وفّرت المكتشفات الأثرية في صيدا دراسة ممتازة وفريدة لتاريخ الطقوس والشعائر عند الكنعانيين والفينيقيين. كما انه بالإضافة إلى النشاط التجاري، شكّل موقع الفرير مركزاً هاما لإقامة الولائم وتقديم الأطعمة، حيث جرت الاحتفالات حول تلك المدافن التي تمّ العثور عليها حتى اليوم، وقد وصل عددها الى 169 مدفن تعود لأطفال وبالغين، وكذلك في المعابد الثلاثة الرئيسية التي إكتُشفت في كافة أرجاء الموقع.
واكّدت سرحال، ان المعبد الذي يعود تاريخه إلى عام 1600 قبل الميلاد والبالغ طوله 47 متراً، يحتوي على أدلة وافرة للانشطة وتناول الأطعمة والاحتفالات الطقسيّة التي تتضمن تكسيرًا للأواني المستخدمة، مشيرة الى ان المعبد الثاني العميق والمخفي تحت الأرض يعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد وكان مُخصّصاً لعدد قليل من الأشخاص ذوي المكانة العالية وهو يتبع للمعبد، الذي لا يزال قيد التنقيب، إلى القرنين الحادي عشر والثامن ق. م.، وهو مؤلف من 11 أرضيّة متراصَّة فوق بعضها على الأقل حتى الآن، ومن المؤكد أنه سيتمّ العثور على المزيد في المستقبل.
خلاصة القول، أن علم الآثار قد عرف "ثورة" في وقت قصير نسبياً منذ أن بدأت أعمال الحفر في موقع "الفرير"، في البداية لم تتوفّر تقنية التصوير الفوتوغرافي الرقمي سيما في السنوات الأُولى ولكن حالياً، تُعدّ تقنيات التسجيل الرقمي والتقنيات الحديثة التي تستخدم تقنية GPS والتسجيل الثلاثي الأبعاد، من التكنولوجيا والمكونات الأساسية والمنتظمة في استكمال دراسته، وتقديم المساعدة الكبيرة وتوفير الوقت، وهذه التطورات قدمت تحدٍّ لجهة حفظ وأرشفة الأبحاث ونشرها، والتي تتضمن العديد من الملفات الرقميّة. ولعلّ هذا المشروع يلهم الأجيال الشابّة للمشاركة في هذه الثروة من التاريخ والثقافة، وكلاهما متأصِّل في واقع بلد مثل لبنان.