على الرغم من أنّ أجواء التفاؤل التي تصاعدت بعد اللقاء الأخير بين رئيسي الجمهورية ميشال عون والحكومة المكلف سعد الحريري، انخفضت من جديد بفعل عدم انعقاد اللقاء المنتظر بين الحريري ووزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل بعيد عودة الأخير من الولايات المتحدة، فإنّ مجرّد الحديث عن "شبه اتفاق" على توزيع الحصص سمح بالانتقال إلى المرحلة الثانية من "الكباش" الحكومي، ألا وهي مرحلة "التناتش" على الحقائب.
ويمكن القول إنّ الوزير باسيل أطلق هذه المرحلة بإعلانه صراحة أن حقيبتي الطاقة والخارجية اللتين يمسك بهما التكتل في الحكومة الحالية، "يفترض أن تبقيا من حصّته"، الأمر الذي ردّ عليه "التكتل الوطني" بالتمسّك بحقيبة الأشغال، التي يكثر الطامحون للاستيلاء عليها. وإذا كان هذا الأمر يدفع إلى التساؤل عن مبدأ "المداورة" وسط كلّ ذلك، ثمّة من يطرح علامات استفهام أكبر، إذ هل أطاح "لبنان القوي" بـ "التغيير والإصلاح"، بعدما افتتح "عهده" بالتخلي عن مبدأين لطالما نادى بهما، من فصل النيابة عن الوزارة إلى المداورة؟!.
مبادئ منسيّة؟!
وسط "المعمعة" الحكومية الحاصلة، وفي ظلّ الصراعات الحاصلة حول عدد الحقائب التي يريد معظم الأفرقاء الاستيلاء عليها، وبطبيعة الحال نوعها وثقلها في التركيبة اللبنانية، يبدو واضحاً أنّ الحديث عن "مبادئ" ترعى تشكيل الحكومة بات من "العجائب" التي يستحيل حدوثها.
وإذا كان مبدأ "الرجل المناسب في المكان المناسب" صعب التحقّق في لبنان، باعتبار أنّ الكثير من الأحزاب السياسية تختار من سيمثلها في الحكومة قبل معرفة أيّ حقائب ستنال، ما يمكن أن يؤدي إلى استلام وزراء حقائب لا علاقة لهم بها من قريب أو من بعيد، فإنّ مبدأ "فصل النيابة عن الوزارة" هو الآخر "عصيّ" بفعل عدم التوصّل إلى نصّ قانوني بذلك، علماً أنّه يفترض أن يكون أساساً، على اعتبار أنّ النائب يجب أن يراقب أداء الوزير، ما يمنعه "مبدئياً" من استلام المركزين في الآن نفسه.
وإلى هذين المبدأين، يبدو أنّ الأفرقاء اتفقوا على "الضحية الثالثة" لكباشهم، المتمثلة في مبدأ "المداورة في الحقائب"، وهو أيضاً من المبادئ التي نادى بها معظم الفرقاء في أوقاتٍ سابقة، وإذا بهم ينقلبون عليها دوماً عند الاستحقاقات. وإذا كان هناك من يحمّل الثنائي الشيعي، أي "حزب الله" و"حركة أمل"، مسؤولية التأسيس لمثل هذا الانقلاب، انطلاقاً من الحقائب السيادية، عبر تمسّكه بحقيبة المال من دون القبول بأيّ نقاش أو مفاوضات حولها، ما جعل الآخرين يتمسّكون بحصصهم "السيادية" كما هي، فإنّ الأمر انعكس أيضاً على سائر الحقائب، من أساسية وخدماتية على ما يبدو.
وعلى الرغم من أنّ المداورة قد تتحقق في نهاية المطاف على بعض الحقائب المصنّفة في عيون الأحزاب والقوى السياسية على أنها ثانوية أو هامشية مع أنّ كلّ حقيبة يفترض أن يكون لها أهميتها، فإنّ المشكلة وسط كلّ ذلك تكمن في "إفراغها من مضمونها"، باعتبار أنّ الهدف من المداورة هو عدم تحكّم أيّ فريقٍ سياسيّ محدّد بأي وزارة، بما يجعلها من "ملكياته" بشكلٍ أو بآخر، علماً أنّ ثمّة من يرى أنّ المداورة قد لا تكون مفيدة في لبنان، طالما أنّ كلّ وزيرٍ يستلم حقيبة يبدأ من الصفر، ليقول إن أيّ إنجاز يتحقق، إذا ما تحقق، هو بجهده وحده، من دون أيّ فضلٍ للذين سبقوه.
مسؤولية جماعية
قد يكون "التيار الوطني الحر" أكثر الفرقاء الذين يُلامون على تغييب هذه "المبادئ" عن الصراعات الحكومية الحاصلة، هو الذي بات متّهماً بـ"الانقلاب" عليها، أو ربما "الاستسلام" لأمر واقع بعد "نضالاتٍ" كثيرة خاضها في هذا السبيل. ولعلّ قضية "فصل النيابة عن الوزارة" تشكّل نموذجاً فاقعاً في هذا الإطار، باعتبار أنّ "التيار" الذي لطالما طبّقها على نفسه حين لم يكن أحد يعتمدها، قرّر التنصّل منها اليوم، على الرغم من قرار بعض الأحزاب اختبارها، وذلك بذريعة أنّ لا نصّ قانونياً ملزماً بشأنها، في وقتٍ يربط الكثيرون بين هذا التنصّل، ونجاح الوزير باسيل شخصياً في الانتخابات الأخيرة، وهو ربطٌ ليس بريئاً، ولن يكون، إن صحّ، لصالح "التيار" بطبيعة الحال.
وإذا كان "التيار" بدا أيضاً أول "المنقلبين" على مبدأ المداورة من خلال إعلان باسيل صراحةً تمسّكه بحقيبتي الخارجية والطاقة من حصّة تكتله الوزاري، ما سيسهّل على الآخرين مسألة التمسّك بحصصهم، الأساسية منها وغير الأساسية، فإنّ المسؤولية لا شكّ لا تقع على عاتقه وحده، إذ إنّ تصريح باسيل جاء بعد سلسلة "مفاوضات" من تحت الطاولة، أوصلته إلى قناعة بأنّ لا بدائل "دسمة" ستكون متاحة أمامه. وخير دليلٍ على ذلك، ما قاله باسيل بعد الاستشارات التي سبقت بدء رئيس الحكومة المكلف مفاوضاته لتأليف الحكومة، إذ أعلن أنّ التكتل يرغب في الحصول على حقيبة المال أو الداخلية، قبل أن يصطدم بتمسّك حركة "أمل" بالمال، و"تيار المستقبل" في المقابل بالداخلية، ما لم يترك له خياراً غير الخارجية، باعتبار أنّ الحقيبة السيادية الرابعة، أي الدفاع، محسوبة عرفاً لرئيس الجمهورية.
أما تمسّك "التيار" بحقيبة الطاقة، فقصّة أخرى، كما يقول العارفون، ليس فقط لكثرة "الطامعين" للاستيلاء عليها، لضرب كلّ المشاريع والخطط التي وضعها الوزير الحالي سيزار أبي خليل، خصوصاً في ضوء الهجوم المصوّب نحوه من كلّ حدبٍ وصوب، انطلاقاً من خطط البواخر وسواها، ولكن أيضاً لأنّ "التيار" يريد أن يقول إنّ ما بدأه يحتاج إلى استكمال، وهو ما لا يمكن أن يحصل بذهاب الوزارة إلى أيّ طرفٍ آخر يبدأ من الصفر. ولعلّ الخشية الأكبر لدى "التيار" من ذهاب هذه الحقيبة بالذات إلى أيّ فريقٍ آخر، وخصوصاً إذا كان من "الخصوم"، هي بالانقضاض على كلّ ما يعتبرها "التيار" إنجازات، ليصوّر للرأي العام وكأنّه لم يحقّق شيئاً، مع ما لأزمة الكهرباء من حساسيّة في عيون الناس الذين لم يعد يهمّهم نوع الخطة التي تنفذ، بقدر ما يهمّهم أن تحقق الوعود التي سئموا سماعها من دون رؤية أي ترجمة عملية لها.
العقليّة نفسها...
قد يكون من الظلم القول إنّ "التيار الوطني الحر"، عندما استبدل شعار "التغيير والإصلاح" الذي رافقه على مدى سنوات بـ "لبنان القوي"، لم يتخلّ عن معظم المبادئ التي لطالما نادى بها فحسب، بل أطاح قبل كلّ شيء بروح "التغيير والإصلاح" وجوهره.
ولكن قد لا يكون من الظلم القول إنّ شيئاً ما تغيّر، في ظلّ "لبنان القوي"، أقلّه أنّ التكتل الذي كان يوافق على التغريد وحيداً في سرب "التغيير والإصلاح"، ولو من دون أيّ حليفٍ أو شريك، قرّر "التمثّل" بغيره، باعتباره جزءاً من التركيبة السياسية، يحق له ما يحق لغيره.
المسؤولية ليست مسؤولية "التيار" وحده، لا شكّ في ذلك، لكنّ الأكيد أيضاً أنّ العقلية التي تتحكّم بتشكيل الحكومات ما زالت هي هي، بل إنّ البعض يخشى القول إنّها تنحدر نحو الأسوأ أكثر فأكثر...