كثير قيل ويُقال حول ما أسمي «صفقة القرن» التي لم يُعلَن من تفاصيلها شيء مؤكد، ولكن مضمونها او القصد منها تسرّب إلى الاعلام وعرفت تقريباً الجهات والدوائر المعنية بالتنفيذ معرفة تخضع لقاعدة أمنية شهيرة هي قاعدة «العلم بقدر الحاجة». وإذا جمعنا ما تسرّب وما نسب إلى هذه الجهة أو تلك لوصلنا إلى صورة تشي بأن هذه المسماة «صفقة القرن» ليست أكثر من منظومة من السلوكيات والتدابير التي تفرض تنازل العرب عن حقوقهم بفلسطين كلياً، والإقرار للكيان الصهيوني بالحق بإقامة الدولة القومية لليهود فيها تماماً كما جاء في وعد بلفور 2017 وتجاوزاً لما نصّ عليه في قرار التقسيم رقم 181 القرار الوحيد الذي تستند «إسرائيل» في شرعيتها المزعومة اليه.
وإن هذه التي تدّعي اميركا و«إسرائيل» بأنها صفقة بين العرب والفلسطينيين من جهة وأميركا و«إسرائيل» من جهة أخرى هي في الواقع عملية تخلٍّ عن الحقوق لا تعطي العرب شيئاً، بل كلها تنازل وإذعان للصهيوني المحتل الغاصب، ولأن هذا هو حال العملية فعلياً فمن الصواب واحتراماً للحقيقة وتأكيداً على طبيعة الأمور وتسمية للأشياء بأسمائها، أن تكون لازمة تسمية هذه العملية بأنها «تصفية القرن» وليس صفقة القرن كما يروج إعلامهم. ففيها تصفية للقضية الفلسطينية بالشروط والمعايير الإسرائيلية من دونم مراعاة لحق طبيعي او قانوني او قاعدة من قواعد القانون الدولي.
ومَن يتابع ويدقق في ما تسرّب أو ظهر من تدابير تنسب إلى «صفقة القرن» المزعومة يجد أن هذه العملية تقوم على مرتكزات أساسية أولها اعتبار فلسطين كلها دولة لليهود ولا يخرج منها إلا قطاع غزة، الذي يكون في إبقائه خارجها مصلحة إسرائيلية للتمكن من تطبيق «قومية الدولة» على النحو الذي سنبيّنه. والثاني اعتبار القدس كلها ومن غير تمييز بين شرقية وغربية هي لـ«إسرائيل» عاصمة أبدية، والثالث إسقاط حق العودة للفلسطينيين وتوطينهم، حيث هم في البلاد العربية خاصة لبنان وسورية والأردن ومصر، مع الإقرار لـ«إسرائيل» بحق سحب الجنسية من كل من ليس يهودياً وموجوداً في فلسطين التي احتلت في العام 1948 وترك الخيار لها في منحه الإقامة المؤقتة او الدائمة على «أراضيها» أو طرده منها بعد حرمانه من حقوق المواطنة، وأخيراً إدخال «إسرائيل» في النسيج العضوي للنظام الإقليمي في المنطقة خاصة من الوجهتين الأمنية والاقتصادية لتكون هي في الموقع الطليعي الذي يقود المنطقة بإشراف وتوجيه أميركيين.
أما في التنفيذ فقد شرعت أميركا بأول خطوة على هذا الصعيد، باعترافها بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» ونقل السفارة الأميركية اليها، ثم كان اصدار الكنيست الإسرائيلي «قانون القومية» الذي مضى عليه عقود يناقش من دون أن يجرؤ أحد على اعتماده، لكنه بعد إطلاق «تصفية القرن» بموافقة عربية بخاصة من السعودية، اعتمد من دون خشية من أحد رغم أنه يجاهر بإقامة نظام تمييز عنصري على وجه أبشع بكثير مما كان قائماً في جنوب افريقيا في القرن الماضي.
وإضافة إلى ما ذكر تحضّر أميركا و«إسرائيل» أمرين لإخراجهما من الجعبة العدوانية على فلسطين والمنطقة أولهما الدعوة لإنشاء «حلف عسكري« بين «إسرائيل اليهودية» ودول عربية إسلامية تحت اسم الناتو العربي الإسرائيلي من أجل حماية مشروع التصفية في مواجهة المقاومة ومحور المقاومة عامة وإيران بشكل خاص حلف يجمع «إسرائيل» مع دول الخليج ومصر والأردن الموقعتين معاهدات صلح معها، والثاني طرح ما أسمي مبادرة نتنياهو حول قطاع غزة. المبادرة التي يبتغي منها العدو تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية وفق اتفاق أوسلو التفريطي، لتطبق عليها النظام الأمني الساري في الضفة أي جعله ميداناً للتنسيق الأمني مع «إسرائيل» بما يقود إلى تصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة نهائياً، والتحضير لإعلان القطاع دولة فلسطين المنزوعة السلاح واعتبار كل فلسطيني في العالم مواطناً في هذه الدولة حتى ولو لم يكن مقيماً فيها. وذلك من أجل إلغاء المبررات القانونية للمطالبة بحق العودة. إنها مبادرة تقزيم القضية الفلسطينية وحصرها بقطاع غزة من أجل التمكن من خنقها وتصفيتها.
لا شك في أن هذه الخطة الشيطانية الخبيثة المسماة «صفقة القرن» هي خطة أعدّ لها بعناية وأرفدت بالكثير من مواقع ومصادر القوة لضمان نجاحها بيد أن ذلك يتطلّب توفر شروط أساسية لا يمكن تجاوزها. أولها موافقة الشعب الفلسطيني عليها، والثاني سكوت محور المقاومة وعدم مواجهتها. والثالث ضمان وقف المقاومة الفلسطينية والرابع ضمان تفكيك محور المقاومة وامتلاك السيطرة بشكل خاص على ما تسمّيه «إسرائيل» الجبهة الشمالية لمنع أي انفجار في المنطقة يعيد الأمور إلى نقطة الصفر ويقود إلى حرب إقليمية مفتوحة لا تملك أميركا و«إسرائيل» القدرة على إنهائها.
إن مَن يدقق في الشروط المطلوبة لنجاح عملية تصفية القرن هذه يجد أن تحقق هذه الشروط أمرٌ فيه من الصعوبة ما يكاد يجعله يقترب من الاستحالة. ونبدأ مع الشرط الأول إذ إننا لا ننكر وجود فلسطينيين يوافقون على هذه الصفقة ويشكّلون في موافقتهم امتداداً لما جرى في أوسلو وما استتبعها من تنازلات وطعن للقضية الفلسطينية، إلا أن المزاج الفلسطيني الراجح والمؤيد من الموقف الشعبي العربي الغالب، يتمسك بكل فلسطين وبمبدأ استعادتها من البحر إلى النهر المبدأ الذي تؤكده كل المواقف العربية والفلسطينية دونما شك او التباس، كما تزداد ثقة الفلسطينيين بالمستقبل ويزداد تمسكهم بحقهم بوطنهم فلسطين على وقع الهزائم التي يتجرّعها المعتدون في الإقليم عامة وفي سورية خاصة.
اما في الثاني فإن لمحور المقاومة مشروعه لحل القضية الفلسطينية. وهو المشروع الذي طرحه الأمام علي الخامنئي منذ سنوات ويقوم على مبدأ قيام الدولة الفلسطينية الواحدة التي يكون مواطناً فيها مَن كان من أهلها او تحدّر منهم، أما من جاء إليها فعليه الرحيل وترك البلاد لأهلها يختارون نظام دولتهم من دون أي غصب او ضغط. وبالتالي لن يكون لتصفية القرن الأميركية الصهيونية محل في قاموس محور المقاومة الذي سيستمرّ في دعم الشعب الفلسطيني وسيستمر بالمطالبة بكل فلسطين ويعمل من اجل ذلك مؤمناً بانها ستستعاد.
وعن وقف المقاومة الفلسطينية نجد الرد الناجع وببساطة كلية بإبداعات الشعب الفلسطيني الأخيرة الذي تخطى مَن يعتبر نفسه قيادات فلسطينية وأطلق سابقاً الانتفاضة تلو الانتفاضة ثم ينظم اليوم مسيرات العودة التي أرهقت «إسرائيل» نفسياً ومعنوياً قبل ان تلحق بها الاضرار المادية التي يحسب لها اليوم أكثر من حساب. فمقاومة فلسطين مستمرة وبكل تأكيد وعلى مَن يريد التحقق أكثر عليه أن يُصغي إلى ما قالته المناضلة عهد التيمي ذات الـ 17 ربيعاً متوعّدة «إسرائيل» بمواصلة المقاومة واستمرارها. موقف أطلقته وهي تخرج من السجن الإسرائيلي بعد ثمانية أشهر من الاعتقال.
أما الضربة القاضية لمشروع «تصفية القرن» فيتمثل في ما يجري في سورية من انهيار منظومة العدوان وجماعات لإرهاب امام الجيش العربي السوري وحلفائه في محور المقاومة ومعهم روسيا، حيث استطاعت سورية وعلى مدار نيف وسبع سنوات أن تصمد أولاً ثم تحتوي العدوان الكوني عليها ثم تتحوّل إلى الهجوم ثم تطهّر الأرض السورية وتستعيدها تباعاً إلى كتف الدولة وباتت في الأشهر الأخيرة لإنجاز مهمة التحرير والتطهير والعودة إلى الموقع الجيوسي الذي كانت فيه قبل العدوان لتلعب وبفعالية أكبر الدور الاستراتيجي الذي احترفته خدمة لفلسطين وللقضايا العربية .
إن انتصار محور المقاومة في سورية أجهض مشروع تقسيم المنطقة ومنع تركيبها على أساس عرقي وطائفي ومذهبي، وحال بالتالي دون تمرير أي من مشاريع التصفية لقضية فلسطين. ففي سورية لم تكن مواجهة المؤامرة الكونية دفاعاً عن سورية، فحسب بل كانت للدفاع عن فلسطين وعن كل المنطقة كما هي دفاعاً عن سورية. وبالتالي إن مَن انتصر في المعركة الدفاعية الرئيسية لن يسمح للعدو التسلّل لفرض ما يريد عبر البوابات الخلفية مهما سخر من طاقات وبذل من جهود، وإذا ذهبت «إسرائيل» للمواجهة، وفتحت جبهة الشمال عندها ستكون الكارثة الاستراتيجية عليها، لأنها تستطيع أن تبدأ الحرب، لكنها لن تستطيع أن تنهيها، بل سينهيها محور المقاومة وسيغيّر وجه المنطقة، كما توعّدها السيد حسن نصر الله. لذا، فالمطلوب الآن الثقة بالنفس، الثقة بأننا نحن مَن انتصر ونحن مَن يقرّر مصير المنطقة وليس للمهزومين وأتباعهم من العملاء والأدوات أي دور في صنع هذا المستقبل.