مع كل تعثّر جديد لمُحاولات تشكيل حُكومة العهد الثانية، تخرج إلى العلن تلميحات وتحليلات عن إمكان تشكيل حُكومة أكثريّة نيابيّة تستبعد أحزابًا أساسيّة عنها، وحتى حُكومة أكثريّة برئاسة شخصيّة سنيّة غير رئيس "تيّار المُستقبل" سعد الحريري. فهل هذه الإحتمالات قابلة للتطبيق؟.
عندما قدّم رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري إستقالته من السُعوديّة بشكل مُفاجئ في تشرين الثاني من العام 2017، كُتب الكثير عن خطّة سعودية تقضي بأن تترك القوى الحليفة لها في لبنان، وفي طليعتها كلّ من "تيّار المُستقبل" وحزبي "القوّات اللبنانيّة" و"التقدمي الإشتراكي" السُلطة، لتسليمها إلى تحالف "التيّار الوطني الحُرّ" مع "حزب الله" والقوى المُختلفة المُؤيّدة لما يُعرف بإسم "محور المُقاومة"، وذلك بهدف فرض عُقوبات إقتصادية قاسية على لبنان، ومُحاولة تنفيذ أوسع مُقاطعة سياسيّة ودبلوماسيّة مُمكنة عليه. وقيل أيضًا إنّ الهدف الأبعد يكمن في التسبّب بانهيار السُلطة في لبنان، عن طريق الإنهيار المالي والإقتصادي. وليس بسرّ أنّه في تلك الفترة قاد "التيّار الوطني الحُرّ" الجُهود السياسيّة والدبلوماسيّة مع فرنسا وغيرها من دول العالم، للإلتفاف على هذه "الخطة"، ولإفشالها في مهدها عن طريق تأمين عودة رئيس الحُكومة من السعودية ومن ثم تراجعه عن الإستقالة. وترافقت الجُهود التي بذلها وزير الخارجية والمُغتربين في حُكومة تصريف الأعمال جبران باسيل في هذا الصدد، مع مواقف مؤيّدة وداعمة لرئيس "المُستقبل" من قبل أغلبيّة قوى "8 آذار" التي طالبت ببقاء الحريري رئيسًا للحُكومة.
وإنطلاقًا مّما سبق، إنّ الحديث اليوم عن إستبعاد الحريري عن رئاسة الحُكومة، وعن تشكيل حُكومة لا تضمّ كلاً من "المُستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي" يعني عمليًا إعادة إحياء ما وُصف يومًا-من جانب "محور المُقاومة"، بخطة السُعودية لتقويض الإستقرار السياسي اللبناني وبضرب إستقراره النقدي والإقتصادي والإجتماعي، تنفيذًا لتهديدات كان أطلقها آنذاك وزير الدولة السُعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان. ويعني عمليًا أنّ ما أفشله تحالف "التيّار" مع قوى "8 آذار" في نهاية العام 2017، سيُقدمون عليه طوعًا وبكامل إرادتهم، في مُنتصف العام 2018!. فإستبعاد "المُستقبل" عن الحُكم وعن السُلطة التنفيذيّة، ومعه كل من "القوات" و"الإشتراكي" في هذه المرحلة بالتحديد، أي في ظلّ العُقوبات الأميركيّة المُتصاعدة ضُدّ لبنان، وفي ظلّ إستمرار حالات التوتّر والمُواجهة والخصام بين المحور المُؤيّد لإيران في المنطقة من جهة والمحور المؤيّد للسعودية وبعض دول الخليج الأخرى من جهة ثانية، وكذلك في الوقت الذي يجهد المصرف المركزي اللبناني للحفاظ على ثبات سعر صرف العملة الوطنيّة في مُقابل الدولار الأميركي، يعني عمليًا تعريض لبنان لعاصفة سياسية-إقتصاديّة مجهولة النتائج.
ولعلّ تجربة حُكم حكومة رئيس الوزراء السابق النائب الحالي نجيب ميقاتي، من 13 حزيران 2011 حتى 15 شباط 2014، هي خير دليل على القُدرة التعطيليّة لتيّار المُستقبل والقوى المُتحالفة معه، علمًا أنّ الحزب "الإشتراكي" كان مُشاركًا يومها في حُكومة ميقاتي، بينما سيكون اليوم من بين المُبعدين عن حُكومة الأكثريّة في حال تشكيلها. وبالتالي، إنّ كل المُعطيات الداخليّة والإقليميّة والدَوليّة لا تؤشّر إلى إمكان قيام حُكومة أكثريّة وأمر واقع تستبعد قوى رئيسة، لها تمثيلها الكبير والأكثر قُوّة في الساحتين السنيّة والدرزيّة ولها تمثيلها الوازن والثاني من حيث التراتبيّة في الساحة المسيحيّة.
وفي الختام، يُمكن القول إنّ العقبات أمام إرغام رئيس الحكومة المُكلّف على التنحّي، لصالح تكليف شخصيّة سنيّة أخرى تشكيل الحُكومة الجديدة، من دون مُوافقة الثلاثي "المُستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي" لا تنحصر بالناحية الحسابيّة العددية، لجهة عدد الأصوات التي يُمكن أن تنالها هكذا حُكومة في مجلس النوّاب الحالي، إنّما في عقبات ميثاقيّة وسياسيّة أساسيّة داخليّة، وفي مخاوف إقتصاديّة وماليّة جديّة محليًا أيضًا، وفي ضُغوط إقليميّة ودَوليّة حتميّة. فإذا كان الحجم النيابي للثلاثي "المُستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي" لا يتجاوز 45 نائبًا، أي أكثر بقليل من ثلث مجلس النوّاب، غير كاف للوقوف بوجه تصويت الأكثريّة النيابيّة المُقابلة-في حال تأمين نصاب الجلسة، فإنّ قُدرة هذا الثُلاثي على إعتماد مُعارضة تعطيليّة للحُكم، كبيرة جدًا، خاصة وأنّها يُمكن أن تلقى دعمًا غير محدود من قوى إقليميّة ودَوليّة تتمنّى حُدوث هذا "السيناريو" الإنقسامي مُجدّدًا في لبنان، لتنفيذ أجنداتها الخاصة بالمنطقة. وبالتالي، لهذه الأسباب الحريري سيبقى رئيسًا للحكومة، حيث أنّ ما يُحكى عن خيارات أخرى لا يدخل سوى في إطار الضُغوط والتهويل، إلا في حال إتخاذالفريق الذي يُروّج لخيارات رديفة قرارًا إستراتيجيًّابالمُواجهة المفتوحة... أيّا كان الثمن!.