تستمر الأجواء والمناخات المتشائمة بشأن قرب تشكيل الحكومة اللبنانية من قبل الرئيس المكلف سعد الحريري، وبات هناك ما يشبه القناعة، لدى الكثير من السياسيين والمعلقين والمحللين، بأن العوائق التي تحول دون إنجاز تأليف الحكومة ليست محلية، رغم الإقرار والاعتراف بوجود بعض العقد، إنما هي عوائق خارجية وتحديدا أميركية سعودية لا تريد أن تشكل الحكومة الآن حتى لا يحصل تحول بالموقف الرسمي اللبناني باتجاه الانفتاح على سوريا انطلاقا من أن التوازن الجديد الذي سيسود في الحكومة الجديدة، بناء على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، يصب في مصلحة القوى والتيارات المؤيدة لإنهاء القطيعة مع سوريا وعودة العلاقات بين البلدين انطلاقا من مصالح لبنان الحيوية التي تملي ذلك، لاسيما لناحية ضرورة تصدير المنتوجات والسلع الزراعية والصناعية إلى السوق السورية والأسواق العربية، بعد أن يفتح معبر نصيب بين سوريا والأردن.
وكذلك حركة الترانزيت من مرفأ بيروت إلى الدول العربية، حيث يقدر الخبراء الاقتصاديون حجم عائدات الصادرات اللبنانية التي كانت تعود على لبنان، قبل إقفال معبر نصيب، بما يتجاوز ملياري دولار، ويتوقع أن يرتفع هذا الرقم بنسبة كبيرة مع فرص التصدير الواعدة إلى السوق العراقية الكبيرة، الأمر الذي يشكل دخلاً هاماً يحتاج إليه لبنان لسد الخلل الكبير في الميزان التجاري بين الصادرات والواردات وتراجع معدلات النمو، بشكل كبير، على إثر توقف التصدير وحركة الترانزيت عبر الطريق البري. كما أن هناك مصلحة للبنان بالتواصل مع الحكومة السورية لتسريع عودة النازحين السوريين لأنها تسهم في التخفيف من الأعباء على الاقتصاد اللبناني، وتضع حدا للمعاناة الإنسانية للنازحين.
إلا أن الاستمرار في سياسة تأخير الحكومة قد ينعكس سلبا على الجهات الخارجية والداخلية التي تقف وراء هذا التأخير للأسباب التالية:
السبب الأول: إن عرقلة تشكيل الحكومة دفع ويدفع بالقوى السياسية، التي تسعى للانفتاح على سوريا، إلى أخذ المبادرات للتواصل مع الحكومة السورية لتسهيل عودة النازحين وإعادة التعاون والتنسيق في المجالات المشتركة، وتوجيه رسالة إلى الجهات الخارجية والمحلية، التي تقف وراء تعطل تأليف الحكومة، بأن الاستمرار في التعطيل لن يجمد حل أزمة النازحين ويمنع البدء بتسهيل عودتهم أو يحول دون عودة العلاقات وإنهاء القطيعة بين البلدين، وقد تزامن ذلك مع إعلان رئاسة الجمهورية بأن الرئيس ميشال عون كلف اللواء عباس إبراهيم التواصل مع الدولة السورية لتأمين عودة النازحين، مما أحرج الرئيس الحريري ودفعه إلى الالتفاف على ذلك وإعلان قبول المبادرة الروسية لإعادة النازحين.
السبب الثاني: يتوقع، في اللحظة التي يتم فيها عودة فتح معبر نصيب مع الأردن، أن تتحرك الفعاليات اللبنانية الاقتصادية، الزراعية والصناعية، للضغط على المسؤولين للتواصل مع نظرائهم السوريين لتأمين عودة تصدير المنتوجات اللبنانية خصوصاً وأن الحكومة السورية لديها تعديلات على الرسوم الجمركية تقضي برفع هذه الرسوم لصالح صندوق إعمار سوريا قبل السماح بعودة حركة التصدير والترانزيت عبر الحدود السورية، وهذا يحتاج إلى اتفاق مع الحكومة اللبنانية.
السبب الثالث: إن تأخير تشكيل الحكومة لن يؤدي مع الوقت إلى تبدل في موازين القوى لمصلحة المعرقلين، بل إن هذه الموازين مرشحة إلى الاختلال أكثر لمصلحة قوى الثامن من آذار والتيار الوطني، ما يعني أن قوى 14 آذار ستكون في وضع أضعف بكثير مما عليه الآن عندما يحين وقت التأليف في نهاية المطاف، فإلى جانب أن هذه القوى فقدت الغالبية النيابية ولم يعد بمقدورها تشكيل حكومة وفق موازين قوى أفلت وباتت من الماضي، فإن موازين القوى دوليا وإقليميا تزداد اختلالاً في غير مصلحتها، لاسيما بعد القمة الروسية الأميركية، والتي عكست مدى تراجع النفوذ والدور الأميركي وتنامي النفوذ والدور الروسي.
انطلاقا من هذه الأسباب لا يستبعد المحللون والمراقبون أن تتكرر المناخات والأجواء التي سبقت اضطرار الرئيس الحريري إلى المسارعة لقبول انتخاب الرئيس ميشال عون انطلاقا من حساب أميركي بأن التأخير في ذلك لم يعد في مصلحة فريق 14 آذار وأن هناك حاجة لعودة الرئيس الحريري إلى الحكم لتعويم دور تيار المستقبل وفريق 14 آذار المتراجع سياسيا وشعبيا.
ولهذا إذا كان هناك من تحسب أميركي بأن الأشهر المقبلة لن تكون أفضل لناحية شروط تشكيل الحكومة اللبنانية بالنسبة إلى فريق 14 آذار من الآن، فقد تسارع واشنطن إلى إعطاء إشارة الموافقة على تشكيل الحكومة الآن، كما أعطتها سابقا عشية الموافقة على انتخاب الرئيس ميشال عون، وبالتالي ينطلق قطار التأليف محليا بالمسارعة إلى تذليل العقد المحلية.
فهل يرجح مثل هذا الاحتمال بعد مرور نحو شهرين ونصف على تكليف الرئيس الحريري؟
الأجواء في لبنان لا تزال جد متشائمة وقد عكس ذلك قبل أيام رئيس مجلس النواب نبيه بري عندما قال آمل ألا يكون السبب في تأخير تشكيل الحكومة خارجيا. لكن مع ذلك يبقى هذا الأمر مرهونا بالحسابات الأميركية، هل قررت واشنطن الذهاب إلى التكيف مع موازين القوى الناشئة إقليميا ودوليا والدخول فعلا في عقد تسويات مع روسيا تنطلق من هذه الموازين، أم لا تزال ترفض ذلك نتيجة الصراع الداخلي في الولايات المتحدة حيث هناك فريق له وزنه في الكونغرس ودوائر صنع القرار في الحزبين الجمهوري والديمقراطي يرفض الشروع في مثل هذه التسويات باعتبارها تنازلاً لروسيا ويعمل على عرقلة اندفاع الرئيس الأميركي دونالد ترامب باتجاه التوافق مع روسيا مما ينعكس على لبنان بعدم تسهيل تشكيل الحكومة.