شكلت محاولة اغتيال رئيس جمهورية فنزويلا نيكولاس مادورو حدثا استقطب الاهتمام واحتل صدارة الأحداث في العالم، لاسيما وأن محاولة الاغتيال نقلت على الهواء مباشرة كونها تمت لحظة إلقاء مادورو كلمة في احتفال عسكري بحضور عدد كبير من الوحدات العسكرية وكبار ضباط الجيش والمسؤولين في الدولة.
وقد اتجهت أصابع الاتهام مباشرة، في الوقوف وراء هذه المحاولة الفاشلة، إلى الولايات المتحدة التي تناصب العداء لنظام الحكم البوليفاري الذي وضع أسسه الرئيس الراحل الثوري هوغو شافيز، وواصل مسيرته الرئيس مادورو.
والأسئلة التي تطرح في هذا السياق هي:
لماذا تسعى الولايات المتحدة إلى اغتيال مادورو؟.
وما هي الأسباب التي دفعت الاستخبارات الأميركية عبر أدواتها في الداخل الفنزويلي إلى اختيار هذا التوقيت بالذات لتنفيذ محاولة الاغتيال؟.
وما هي النتائج المترتبة على فشل محاولة الاغتيال على السياسة الأميركية في أميركا اللاتينية خصوصا وفي العالم عموما؟.
أولا: منذ وصول الرئيس شافيز إلى سدة الرئاسة وتطبيقه سياسات داخلية وخارجية حررت فنزويلا من التبعية للسياسة الأميركية وعملت على تعزيز المناخات التحررية في عموم أميركا اللاتينية ضد سياسة الهيمنة الأميركية، والولايات المتحدة تعمل على حياكة المؤامرات لأجل الانقلاب على هذا النظام المستقل الذي راح يقيم التحالفات مع العديد من دول القارة في أميركا الجنوبية للتصدي لسياسات التدخل الأميركية في شؤونها. فأميركا رأت في استمرار النظام البوليفاري الثوري في فنزويلا خطراً يهدد بتقويض هيمنتها في المنطقة وإضعاف نفوذها وسطوتها واستطرادا تراجع عمليات استغلالها لثروات شعوب المنطقة، لاسيما فنزويلا الغنية بالنفط، وتعتبر من الدول الأساسية المنتجة لهذه المادة الحيوية للاقتصاد العالمي، والتي كانت تستغلها الشركات الأميركية، قبل قيام نظام الرئيس شافيز بفرض سيطرة الدولة على هذا القطاع واستغلال عائداته في تطوير الاقتصاد الوطني وتحسين مستوى معيشة الشعب الفنزويلي، وخصوصا العمال والمزارعين، مما انعكس بزيادة شعبية النظام البوليفاري وإحباط المخططات الأميركية للإطاحة به. هذه السياسة حرمت واشنطن من مواصلة نهب موارد الشعب الفنزويلي للحفاظ على مستوى معيشة للأميركيين يتجاوز قدرات وإمكانيات أميركا الذاتية، مما يؤكد بأن ما كان يسمى بالحلم الأميركي كان قائما على عمليات النهب والاستغلال البشعة لموارد وثروات شعوب العالم الثالث التي تعاني من الفقر والحرمان والتخلف بفعل ذلك. ولهذا فإن الإمبريالية الأميركية ليس لها مصلحة في سيادة وترسيخ وجود أنظمة متحررة من هيمنتها لأن ذلك يقود الى تراجع قدرتها على الاحتفاظ بمستوى معيشة مرتفع، وكذلك إلى التسبب بتراجع معدلات النمو وحصول الأزمات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة لذلك، ونتيجة كون الرأسمالية الأميركية ليست مستعدة للتخلي عن الحفاظ على مستوى أرباحها المرتفع، وهي لجأت، اثر انفجار الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008، إلى الانقضاض على مكتسبات الطبقة العاملة التي تحققت على مر العقود الماضية.
ثانيا: لقد جاء توقيت محاولة الاغتيال بعد أن وصلت الوسائل الأميركية للإطاحة بنظام الرئيس مادورو، عبر الوكلاء المحليين، إلى طريق مسدود. فقد استخدمت واشنطن كل أساليب الحرب الناعمة لتأليب الشعب ضد النظام البوليفاري، إن كان عبر التحريض على النظام وبث الشاعات من خلاال وسائل الاعلام الممولة أميركيا، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تدار من قبل متخصصين، أو إثارة أعمال الشغب والتخريب في الشارع بواسطة مجموعات مدربة على القيام بمثل هذه الأعمال، في محاولة لتكرار مشاهد الثورات الملونة والبرتقالية التي حصلت في دول أوروبا الشرقية وأوكرانيا وغيرها من الدول التي جرى الإطاحة بأنظمتها التي لا تدين بالولاء للسياسات الأميركية الغربية. وبعد أن عجزت كل هذه الوسائل في إسقاط النظام البوليفاري أقدمت الاستخبارات الأميركية، عبر أدواتها المحلية، على محاولة اغتيال مادورو لإزاحته من المشهد وخلق المناخات المواتية لتنفيذ انقلاب يطيح بنظام الحكم بالبلاد ويمكن تحالف القوى اليمينية ورجال الأعمال المرتبطين بالولايات المتحدة من السيطرة على السلطة وإقصاء قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي الحاكم والزج بهم في السجون، وتنفيذ أحكام الإعدام بحقهم، على غرار ما حصل في تشيلي في سبعينيات القرن الماضي عندما جرى تنفيذ انقلاب عسكري بقيادة اغستو بينوشيه ضد نظام الرئيس سلفادور اليندي الاشتراكي. كما تأتي محاولة الاغتيال في توقيت تحاول فيه إدارة الرئيس دونالد ترامب ترميم هيمنتها المتداعية في أميركا اللاتينية والعالم، والتأكيد بأنها لا تزال قادرة على إسقاط الأنظمة التي تتحدى هيمنتها وإرهاب كل من يفكر بالتمرد على سياساتها.
ثالثا: إن حصول محاولة الاغتيال وفشلها أدى ويؤدي إلى جملة من النتائج الهامة أبرزها:
1ـ إن مثل هذه السياسة الأميركية للإطاحة بالأنظمة الوطنية، عبر الاغتيالات وحياكة المؤامرات وإثارة أعمال الشغب والتحريض ضدها، تكشف وتفضح الطبيعة الحقيقية لسياسات الإمبريالية الأميركية المعادية للشعوب وأنظمتها الوطنية المستقلة، وحقها في تقرير مصيرها وفي اختيار نموذجها المستقل في بناء بلدانها لتحقيق تقدمها وازدهارها وتطور مجتمعاتها، بعيدا عن التبعية للولايات المتحدة.
2ـ تأكيد جديد بأن الولايات المتحدة تمارس سياسة الخداع والتضليل لبلوغ أهدافها الاستعمارية من خلال طرح الشعارات البراقة التي تروج لها والمتمثلة بالدعوة إلى احترام الديمقراطية والشفافية وحرية الشعوب في تقرير ما تريد من سياسات عبر صناديق الاقتراع ، فهي عندما تلجأ إلى اغتيال الرئيس الرؤساء المنتخبين ديمقراطيا من قبل شعوبهم إنما تميط اللثام عن طبيعة السياسات الأميركية المعادية للديمقراطية وسعيها إلى إسقاط الأنظمة الديمقراطية التي لا تؤيد السياسة الأميركية وترفض التبعية لأميركا.
3ـ انكشاف حقيقة السياسة الأميركية يؤدي إلى تعزيز شعبية الأنظمة الوطنية وزيادة عداء الشعب الفنزويلي وشعوب أميركا اللاتينية للسياسات الإمبريالية الأميركية، ما يزيد من العوائق والمصائب أمام سعي واشنطن إلى استعادة هيمنتها المتراجعة، بل ويؤدي أيضا إلى تكريس تراجع هذه الهيمنة، وتقوية الاتجاه التحرري في ما كان يسمى يوما الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، واستطرادا تأكيد سقوط نظام الهيمنة الأميركي الأحادي على العالم وتعزيز موقف الدول الداعية إلى إقامة نظام دولي جديد يقوم على التعددية واحترام القوانين الدولية وسيادة واستقلال الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها بعيدا عن أي تدخلات خارجية.