مما لا شك فيه أن سلامة العلاقات الدولية تتطلب وجود مرجعية صالحة تتمتع بالحياد وعدم الانحياز لجهة معينة أو لأي دولة على حساب دولة أخرى إضافة إلى امتلاك الوسائل والإمكانات التي تحتم على الجميع الاحترام والالتزام بنظم وقوانين وقرارات تفرضها تلك الجهة المحايدة وذلك بغرض فض النزاعات ووقف الحروب والاحتكام إلى القوانين.
منذ 1919 وحتى العام 1944 كانت منظمة عصبة الأمم هي الجهة الصالحة للاحتكام في تنظيم العلاقات بين الدول إلا أن منظمة عصبة الأمم وبعد إخفاق مهمتها في تحقيق أهدافها لم تعد الجهة الموثوقة خصوصاً بعد قيام الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى إلغاء منظمة عصبة الأمم خصوصاً بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية ونشوء الأمم المتحدة 1945 بدلاً منها.
أسست منظمة الأمم المتحدة بتاريخ 24 تشرين الأول 1945 في مدينة سان فرانسيسكو، كاليفورنيا الأميركية، تبعاً لمؤتمر دومبارتون أوكس الذي عقد في العاصمة الأميركية واشنطن. تمّ عقد المؤتمر الأول للأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو في الخامس والعشرين من شهر نيسان لعام 1945، وذلك بحضور حكومات دول ومنظمات عالمية ونواد غير حكومية دولية لصياغة دستور الأمم المتحدة. وقد وقعت الدول الخمسون التي حضرت المؤتمر على ذلك الدستور بعد شهرين في دولة بولندا في السادس والعشرين من تموز، وقد وقعت بولندا على الدستور بعد ذلك ليصبح مجموع الدول إحدى وخمسين دولة.
في شهر كانون الأوّل من عام التأسيس طلب مجلس الشيوخ الأميركي من منظمة الأمم المتحدة رسمياً أن يكون المقر الرئيس للمنظمة في الولايات المتحدة الأميركية، وهو الطلب الذي تمّ قبوله ووقع الاختيار على قطعة أرض في مدينة نيويورك بجانب الضفة الشرقية من النهر، وللمصادفة فإن قطعة الأرض كانت عبارة عن مسلخ للماشية يملكه أحد أفراد أسرة روكفيلر الشهيرة، الذي تبرع بالأرض ونقل ملكيتها للحكومة الأميركية التي بني عليها فيما بعد مقر الأمم المتحدة.
نذكر أن الأمم المتحدة ومنذ نشأتها أخفقت في لعب الدور المأمول منها في تحقيق الأمن والسلام العالمي خصوصاً بين الدول الأعضاء وهنا لابد من التركيز على بعض ما جاء في محاضره غاية في الأهمية من حيث المضمون بالبيانات والأرقام بالتفصيل ألقاها رئيس وفد الجمهورية العربية السورية للأمم المتحدة الدكتور بشار الجعفري بمكتبة الأسد في العاصمة السورية دمشق مفنداً ومبيناً فيها الدور الحقيقي للأمم المتحدة المتخاذل والعدائي لجهة بلادنا العربية.
ذكر الدكتور الجعفري مثالاً واضحاً كيف أن دول العالم الثالث كانت قادرة حتى التسعينيات أن تمرّر أي مشروع قرار في الجمعية العامة بأكثرية تلقائية، خصوصاً أيام وجود حركة عدم الانحياز. إنما الغرب تنبّه إلى هذا الأمر وقام بــعملية ضم كمي لأكثر من 50 دولة إلى الأمم المتحدة لا تكاد ترى بالمجهر مثل ميكرونيزيا إضافة إلى تحول بعض دول الاتحاد السوفييتي سابقاً إلى المعسكر الغربي ودخولها حلف الناتو وبذلك نجح الغرب في إزاحة أي أكثرية ممكنه تفوق الأكثرية المتماهية والسابحة في فضاء السياسات الغربية الإسرائيلية ضد المصالح العربية.
وللمصادفه فإن الدكتور الجعفري وأثناء إلقائه المحاضرة تطرق إلى وصف الأمم المتحدة بالمسلخ مؤكداً أن الأمم المتحدة لم تزل مسلخاً.
الدكتور الجعفري سلط الضوء على التمثيل المشرّف لسورية منذ مشاركتها في تأسيس المنظمة عام 1945 وخصوصاً لناحية أهمية المادة 78 التي وضعها الراحل فارس الخوري وتسميتها مادة سورية، تلك المادة التي تتحدث عن مبدأ المساواة في السيادة وعدم تطبيق مبدأ الوصاية على الدول المؤسسة للأمم المتحدة. مذكراً في الوقت عينه أن أول فيتو استخدم في تاريخ الأمم المتحدة كان من نصيب سورية واستخدمه يومها الاتحاد السوفييتي، بسبب محاولة الدولتين الاستعماريتين يومها فرنسا وبريطانيا المماطلة والمراوغة في نص قرار يدعوهما للجلاء عن سورية.
نستنتج أن الأمم المتحدة لم تكن في يوم من الأيام أفضل حالاً من عصبة الأمم لأنها أيضاً لم تنجح في إلزام العدو الإسرائيلي تنفيذ قراراتها في أي وقت، وها هي الأمم المتحدة تمارس دوراً فاضحاً في تغطية أكاذيب أميركا ومندوبها آنذاك كولن باول في أسباب اجتياح العراق الذي دحض بنفسه الأكاذيب الأميركية مبيناً الدور السيئ للأمم المتحدة في دعم وتغطية الاجتياح الأميركي للعراق.
في لبنان ان القرار 425 الذي نص صراحة على ضرورة انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني بقي أكثر من 25 عاماً مغطى من الأمم المتحدة ومن دون تنفيذ حتى أيار من العام 2000 حين استطاعت المقاومة اللبنانية الباسلة إجبار العدو الإسرائيلي على الانسحاب من الجنوب اللبناني تحت تأثير ضربات المقاومة اللبنانية، ثم جاءت حرب تموز في العام 2006 حينها لم تقم الأمم المتحدة بدورها المنوط بها بضرورة منع الحرب بل أكثر من ذلك فإن الأمم المتحدة صمت الأذان في بداية الحرب ظناً أن العدو الإسرائيلي سيحقق انتصاراً عسكرياً بالقضاء على المقاومة، لكن حين استطاعت المقاومة اللبنانية الباسلة إلحاق الهزيمة العسكرية بالعدو الإسرائيلي تحركت الأمم المتحدة لإنقاذ العدو الإسرائيلي من الانهيار عبر إصدار القرار 1701 ومع أن العدو الإسرائيلي كان الطرف الذي بدأ الحرب إلا أن القرار الأممي لم يجرؤ على إدانة المعتدي الإسرائيلي.
كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة إبان الاعتداء الإسرائيلي على لبنان 2006 وبعد انتهاء ولايته اعترف أمام الملأ أن القرار 1701 لم يكن منصفاً بل إن القرار كان مجحفاً بحق لبنان.
إن ما شهدته ولم تزل تشهده سورية من مؤامرة كونية مستمرة منذ سنوات سبع لهو أكبر دليل على تواطؤ الأمم المتحدة على الحقوق العربية وخصوصاً حقوق الدول التي تناهض العدو الإسرائيلي بل إن الأمم المتحدة تعتبر متواطئة أيضاً في نهب ثروات بلادنا العربية في كل من العراق وليبيا وسورية ولبنان.
إن ما يجري في سورية واليمن وفي فلسطين من ارتكاب مجازر وحشية بحق الطفولة والمدنيين لهو دليل على إخفاق الأمم المتحدة في مهامها.
إن الأمثلة لا تعد ولا تحصى على إخفاق الأمم المتحدة في تحقيق البنود التي أسست لأجل تحقيقها بيد أن الأمم المتحدة باتت مسلخاً بشرياً تغطي مجازر الدول صاحبة المال بحق أطفال وشعوب وثروات دول المنطقة العربية، وإنها منظمة تمارس الدجل والخبث بتغطية وتمرير مصالح الغرب وإسرائيل على حساب مصالح دولنا وشعوبنا العربية.
يبقى السؤال أمام هذا الإخفاق الذريع لمنظمة الأمم المتحدة في تحقيق أي من أهدافها في الأمن والسلم خصوصاً في الوطن العربي: لماذا لا تتم الدعوة لوضع دستور أممي جديد موثوق يؤسس إلى إنشاء منظمة جديدة قادرة على تحقيق ما أخفقت في تحقيقه منظمة الأمم المتحدة وإنهاء مهامها وإعادة أرض مبنى الأمم المتحدة إلى مالكها الأصلي لتعود إلى أصلها عبارة عن مسلخ؟.