أزمة النفايات في لبنان ليست بجديدة، لكنّها ظهرت إلى العلن في العام 2015 ، وبلغت ذروة التفاقم مع توقف شركتي "سوكلين" و"سوكومي" عن العمل، وإغلاق مطمر الناعمة، ومنذ ذلك الحين التخبّط هو سيّد الموقف، مع التهرّب من المسؤوليّة، واللجوء إلى حلول ظرفيّة قصيرة المدى مثل توسيع بعض المطامر الموجودة بحكم الأمر الواقع. وبعد إستنفاد إقتراحات نقل النفايات من العاصمة وضاحيتها إلى مناطق مختلفة في المُحافظات، وحتى ترحيل النفايات إلى الخارج، وإنشاء معامل فرز، وُصولاً إلى إنشاء معامل للتفكّك الحراري، بات الحديث اليوم عن إقتراحات تقضي بإنشاء محارق للنفايات (Incinerators)، في ظلّ إعتراضات واسعة. وبعيدًا عن المواقف السياسيّة، والأفكار المُسبقة، لا بُد من التوقف عند حسنات وسيئات المحارق من خلال مُقاربة موضوعيّة وعلميّة، لتحديد ما إذا كانت المحارق-على إختلاف أنواعها(1)، تُمثّل حلاً ذكيًّا أم خيارًا قاتلاً.
والبداية، مع حسنات محارق النفايات والتي تشمل نواحٍ عدّة، أبرزها:
أوّلاً: إدارة أفضل وأكثر فعاليّة للنفايات، مع إمكان حرق حتى 90 % منها في أي منطقة جغرافية مختارة.
ثانيًا: عدم الحاجة إلى مساحات واسعة أو إلى أراضٍ نائية لطمر النفايات، وإمكان إنشاء المحارق داخل المدن المزدحمة.
ثالثًا: توفير مبالغ مالية كبيرة تُخصّص عادة لعمليّات نقل النفايات من المدن إلى أماكن الطمر البعيدة نسبيًا، بعكس ما هي الحال عليها عند إنشاء محارق داخل المدن المعنيّة.
رابعًا: يُمكن إستخدام الحرارة الناجمة من عمليّات الحرق داخل المحارق المُتخصّصة، لتوليد الطاقة أو لتأمين التدفئة، وفق تقنية معروفة بإسم Waste to Energy تقضي بالإستفادة من الحرارة المرتفعة المُولّدة خلال عمليّات حرق النفايات لتحويلها إلى طاقة كهربائيّة.
خامسًا: لا تتسبّب المحارق بأي تلوّث للأرض المُنشأة عليها، ولا للمياه الجوفية، لأنه لا يجري رمي أي رواسب فيها.
وبالإنتقال إلى سيّئات محارق النفايات، فهي متعدّدة بدورها، وأبرزها:
أوّلاً: إنّ كلفة إنشاء المحارق الحديثة والمتطوّرة مرتفعة جدًا(2) وكلفة تشغيلها وصيانتها مرتفعة أيضًا، من دون أن ننسى الحاجة إلى توظيف فرق عمل متخصّصة. وغالبًا ما تُطالب الجهات المُشغّلة لهذه المحارق، بعُقود عمل لمدّة تتراوح ما بين 20 و30 سنة لتعويض إستثماراتها الكبيرة، ولتحقيق الأرباح المُستهدفة.
ثانيًا: لا محارق من دون دخّان، ومهما كانت المراشح (الفلاتر) متطوّرة، فإنّ نسبة معيّنة من الغازات والإنبعاثات المُضرّة (مثل الزئبق والديوكسين والفيوران) لا يُمكن تفاديها، ولوّ في مقابل تدنّي نسبة "غاز ثاني أكسيد الكربون". وهذه النسبة تختلف تبعًا لطبيعة المواد المحروقة، بحيث أنّه كلّما كانت خالية من المواد البلاستيكيّة ومُشتقّاتها، كلّما كانت أقلّ تسبّبًا بالتلوّث.
ثالثًا: المحارق تُشجّع على عدم القيام بعمليّات الفرز المُسبق للنفايات، وبعمليّات إعادة التدوير، ما لم تكن هناك مراقبة مُشدّدة للمواد التي يتمّ نقلها إلى المحارق من المصدر، ما يعني أنّ مصلحة مُشغّلي المحارق هي في زيادة كميّات النفايات للإستفادة منها، على حساب مصلحة شركات إعادة التدوير والتسميد.
وبحسب العديد من الخبراء في الدول المُتقدّمة تكنولوجيا، لا يجب أن يكون الخيار محصورًا بين إعادة التدوير والطمر الصحّي من جهة والحرق من جهة أخرى، حيث أنّ الخيارين المذكورين يُمكن لا بل يجب أن يسيرا جنبًا إلى جنب. وفي هذا السياق، من الضروري أوّلاً فرض عمليّات فرز النفايات من المصدر، وتوجيه البلاستيك والزجاج والكرتون، إلخ. إلى مراكز إعادة التدوير بأكبر كميّات مُمكنة، وإعتماد خيار التسميد(3) الذي يتيح التفكّك البيولوجي للمواد العضوية، والإكتفاء بحرق المواد العضوية وتلك غير القابلة لإعادة التدوير والتي يسهل تحويلها إلى طاقة، من دون التسبّب بتلويث كبير للجوّ. ويجب أيضًا أن يتم بناء المحارق وفق المُواصفات المتشدّدة المُعتمدة في الدول المُتقدمة، لتقليل نسبة المخاطر البيئيّة إلى حدودها الدنيا، ومُتابعة عمليّات الصيانة وإستبدال المراشح بشكل دَوري، لأنّه في حال كانت المحارق غير مُستوفية للشروط والمعايير التكنولوجيّة والصحّية، ستتسبّب بانبعاث غازات ضارة في الهواء.
في الخلاصة، إنّ المحارق ليست حلاً مثاليًا ولا خيارًا كارثيًا بالمُطلق، لكنّها تُمثّل أحد الخيارات التي يُمكن اللجوء إليها لحلّ مُعضلة مُعالجة النفايات. وليكون هذا الحلّ ذكيًا وغير قاتل، يجب تطبيق معايير مُتشدّدة في عمليّات بناء المحارق وتشغيلها وصيانتها، وعدم إحراق سوى الجزء غير القابل لإعادة التدوير وللتسميد من النفايات.
(1) يوجد أنواع محارق عدة، منها مثلاُ: محارق المصبّعات المتحركة، ومحارق الأتون الدوّار، ومحارق الرمل المتحرّك، إلخ.
(2) المحرقة الكبيرة والمتطوّرة في أوروبا تكلّف ما بين 150 و230 مليون دولار أميركي للمنشأة الواحدة.
(3) يتيح التسميد التفكّك البيولوجي للمواد العضوية، التي تُشكّل عادة ما بين 50 إلى 60 % من إجمالي النفايات، وهو يُحوّلها إلى سماد عضوي.