كثير من الذين استمعوا إلى خطاب رجب طيب أردوغان في العام الماضي معتلياً المسرح معلناً أن الاقتصاد التركي صار من أقوى اقتصاد في المنطقة وأن البنك الدولي قدم طلب قرض بـ5 مليارات دولار من تركيا أعتقد أنه أمام اقتصاد تركي لا يقهر وغير قابل للانهيار غير أن رحلة من البحث والتدقيق في صحة ما جاء على لسان أردوغان قادتني إلى حقيقة لا تحتمل الشك أو الالتباس بأن ما تفوه به أردوغان كان عبارة عن فقاعة إعلامية انتخابية مضخمة لا صحة لها على الإطلاق، وأن البنك الدولي لم يقدم في أي وقت طلباً للاقتراض من السلطات التركية، ولنكتشف أكثر بأن هذا التضخيم في حجم الاقتصاد التركي كان يخفي رعباً أردوغانياً مما هو آت.
على الرغم من هبوط قيمة العملة التركية إلى مستويات قياسية غير مسبوقة وإصابة الاقتصاد التركي بحال من الانكماش والإرباك لم يزل أردوغان يتبع الأسلوب نفسه بالمبالغة في ردة الفعل على الإجراءات الأميركية الأخيرة المسبب الرئيسي لهبوط سعر صرف العملة التركية إلى أدنى مستوى لها وخسارتها أكثر من 40 في المئة من قيمتها.
وفي تدقيق بسيط في الاقتصاد التركي مقروناً بالأرقام يتبين لنا أن تركيا في وضع اقتصادي عبارة عن بالون منفوخ وأن النافخ الأميركي قرر اليوم إعادة البالون إلى حجمه وبدا دونالد ترامب كمن يقول لأردوغان أنا صنعتك لنفسي لكنك عصيت أمري فاليوم جاء وقت كشف الحساب، وفي نظرة على الاقتصاد في تركيا يتبين التالي:
تركيا تستورد من الخارج ضعفي ما تنتجه من الصادرات إذ تبلغ قيمة صادراتها بعد أن ارتفعت مؤخراً 157.1 مليار دولار، في حين تبلغ قيمة وارداتها 234.2 مليار دولار. وبحسب مستشارية الخزينة في تركيا، تتجاوز ديون تركيا 438 مليار دولار على حين يبلغ الدين الحكومي 836 مليار دولار. وفي الوقت الراهن تحتاج أنقرة بشكل ملحٍّ إلى نحو 117 مليار دولار بالعملة الصعبة من روسيا والصين وإيران لتقطيع الوقت ووقف انهيار سعر الليرة.
تصريحات أردوغان أمام أنصاره في طرابزون على البحر الأسود، يحمل معاني طمأنة الأنصار بأن ترامب يشن حرباً تجارية على العالم بأسره وشمل بها بلادنا. ويحمل معاني العتب على الحليف الأميركي الذي يدفع تركيا إلى البحث عن شراكات وتحالفات جديدة. ويحمل أيضاً إشارات التودّد إلى الصين وروسيا وإيران باتهام واشنطن بتدبير مؤامرة سياسية.
من راقب تصريحات الرئيس الأميركي ضد سلوك تركيا أردوغان وطلبه بوجوب تغيير السلوك التركي مع أميركا إضافة إلى قول ترامب بأن تركيا استفادت من أميركا زمناً طويلاً، لكنها لم تف بوعودها وأنه حان وقت الحساب يعلم علم اليقين أن المشكلة مع تركيا ليست مشكلة الإفراج عن القس الأميركي أندرو بنسون أو تسليم المعارض التركي عبد الله غولن بل إن المشكلة الحقيقية بين البلدين هي مشكلة خيارات سياسية.
إن عدم استجابة تركيا تنفيذ العقوبات الأميركية المفروضة على إيران إضافة إلى وجود رغبة أميركية جامحة في كبح جماح الجنوح التركي نحو إيران وروسيا ومحاولة تعطيل تنفيذ التزام تركيا بمقررات مؤتمر أستانا كدولة ضامنة لعملية إنهاء الوجود المسلح في الشمال السوري وإبرام صفقة الصواريخ الروسية إس 400 مع تركيا، كلها عوامل أسهمت في تأجيج الخلاف بين تركيا أردوغان وبين أميركا ترامب.
السؤال: هل يصمد أردوغان أمام الحساب الأميركي؟
يؤكد العارفون بأردوغان أنه إنسان برغماتي لأبعد الحدود، ولا يمكن الوثوق به ولو كان تحت الضغط، وإن انقلابه على الرئيس بشار الأسد وتحوله بين ليلة وضحاها إلى رأس حربة في تنفيذ مؤامرة إسقاط الدولة السورية هو شاهد حي ودليل حسي لعدم الوثوق بأردوغان الذي يمتلك نزعة السلطان.
يضيف العارفون بأردوغان من منا لم يشهد مسرحية انسحابه من مؤتمر دافوس؟ ومن منا لم يقتنع بتجارة أردوغان بأرواح الأتراك في سفينة مرمرة حينها اعتقدنا أن الطائرات الحربية التركية ستظهر في سماء فلسطين انتقاماً للشهداء الأتراك والفلسطينيين الذين سقطوا بنيران العدو الإسرائيلي على سفينة مرمره لكن أردوغان حينها كشف عن وجهه الحقيقي وخضع للضغط الأميركي الإسرائيلي وقبل إهانة السفير التركي في تل أبيب حين تعمد العدو الإسرائيلي إجبار السفير على الجلوس على مقعد لا يليق بسفير ومن ثم طرده من تل أبيب وحين أحس أردوغان بالحرج ادعى أن رئيس وزراء العدو قدم اعتذاراً رسمياً لنكتشف فيما بعد أن لا وجود لأي اعتذار إسرائيلي قدم لتركيا.
هناك من يعتقد أن خيارات أردوغان باتت ضيقة وأن مسألة الإعلان عن انسحاب تركيا من الناتو هي مسألة وقت وأنه لم يعد أمام أردوغان إلا التعاون الكامل والاستدارة نحو إيران وروسيا الحلفاء الجدد كما صرح هو نفسه في طرابزون.
إن من يعتقد أن أردوغان يريد الانسحاب من الناتو فهو خاطئ ومن يؤكد على استدارة أردوغانية نحو إيران وروسيا فهو مخطئ حتى ينقطع النفس لأن أردوغان يمتهن البيع بالقطعة والمفرق ولم يعد يمتلك ما يمكنه البيع بالجملة، ولذلك فإن الرهان على أردوغان يبدو كأنه سراب، لأن رؤية أردوغان في قمة ثلاثية مع بوتين وروحاني، لا تعني «رؤية الحصرم في حلب»!
أردوغان يعتبر بارعاً في لعبة الأرجوحة بين الشرق والغرب ما دام هو المستفيد، لكن وفي لحظة الخيارات والمفارق فإن أردوغان ومن دون أي تردد سيختار المفرق الأميركي.
بما أن أردوغان عينه على روسيا وإيران لكن قلبه باق مع أميركا يبقى أن نقول: إذا كانت روسيا نجحت في إنقاذ اردوغان من محاولة الانقلاب الأخيرة الفاشلة في تركيا وإذا كانت إيران أيدت مد يد العون لأردوغان بغرض تعويمه، بيد أن المنطقة اليوم وخاصة بعد اتفاق قمة هلسنكي بين بوتين وترامب ليست كما قبلها وأن نجاح الجيش العربي السوري باستعادة السيطرة على الجنوب السوري كاملاً قلب كل المعادلات لمصلحة الجمهورية العربية السورية واستكمالاً لقلب المعادلات يتطلب ترك الخناق يشتد على عنق أردوغان وعدم تقديم أي مساعدة روسية إيرانية من شأنها إعادة تعويمه وذلك بغرض حرمانه من أي فرصة تمكنه من إعاقة استكمال تنفيذ مهمة القضاء على آخر معاقل الإرهابيين مع التركة التركية في الشمال السوري.