ليس تحرير السلسلة الشرقية (٢٦ آب ٢٠١٧) حدثاً عابراً في تاريخ لبنان. وقد يجوز القول إن أهميته توازي أهمية تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي عام ٢٠٠٠. لا تقاس الأمور هنا بالزمن وحده، ولا بالجغرافيا التي احتلتها الجماعات الإبادية في الجرود، ولا بالتضحيات التي بذلت لتحقيق كل واحد من الانتصارين، وحسب. ما أُنجِز يقاس، أولاً، بالمخاطر التي جرى التخلص منها، إلى غير رجعة.
والحديث ليس عن المخاطر التي كشفها قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، ووضعها على طاولة مجلس الوزراء في جلسة السابع من آب ٢٠١٤ (حصلت «الأخبار» على محاضر جلسات مجلس الوزراء في الفترة التي تلت احتلال تنظيمي «داعش» و«النصرة» وحلفائهما بلدة عرسال في الثاني من آب ٢٠١٤ ــــــ واختطافهم ٣٦ دركياً وعسكرياً وسيطرتهم على مواقع للجيش اللبناني وقتلهم وجرحهم لعشرات المدنيين والعسكريين ـــــ وصولاً حتى جلسة الرابع من شباط ٢٠١٥). يومذاك، قال قهوجي إن التحقيقات أظهرت أن تنظيم داعش لم يشنّ هجومه على عرسال كردة فعل على توقيف أحد قادته، بل لأنه كان ينوي إقامة إمارة تصل إلى ما هو أبعد من عرسال. وبعد أيام على تلك الجلسة، أطلق رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، تحذيرين للبنان، مفادهما أن «داعش» يريد الوصول إلى البحر. الهدف الذي تحدث عنه كاميرون كان قد ظهر في محاضر التحقيقات التي أجرتها استخبارات الجيش مع قادة من التنظيم. لكن السيطرة على جزء من الأراضي اللبنانية ليس خطراً وجودياً على لبنان، لو لم يكن لهذه السيطرة امتداد جغرافي وبشري هائل، داخل سوريا، وصولاً إلى تخوم العاصمة العراقية بغداد. كانت «داعش» و«النصرة» وشبيهاتها تسيطر، في ذلك الوقت، على أراضٍ تفوق مساحتها مساحة لبنان بأكثر من عشرين ضعفاً. وفكرياً، لم تُخفِ مشروعها الإبادي الذي شرعت بتنفيذه «على الهواء مباشرة».
الخطر الذي كان لبنان معرضاً له متصل بالدرجة الأولى بـ«الضعف التكويني» الذي يعاني منه. بلد مساحته صغيرة، كما عدد سكانه، إضافة إلى تركيبته الطائفية والسياسية التي تجعله، مع عوامل أخرى أبرزها التدخلات الأجنبية، في حالة انقسام دائم. هذا الانقسام يُضاف إلى «عطب» آخر، ألا وهو سوء الإدارة السياسية في مواجهة الأزمات. محاضر مجلس الوزراء، بعد احتلال عرسال، تكشف كم كرر قائد الجيش استعداد المؤسسة العسكرية لتحرير عرسال ومحيطها، في مقابل رفض رئيس الحكومة تمام سلام، ووزراء فريق ١٤ آذار لذلك، بذريعة الحفاظ على حياة المخطوفين.
هذا الموقف المتخاذل لم يكن نتيجة خوف أو حرص. فتعاظم الخطر الإبادي من قبل تنظيمَي «داعش» و«النصرة» وحلفائهما، كان يحظى بغطاء سياسي محلي وإقليمي ودولي. واحتلال عرسال في آب ٢٠١٤ لم يكن أكثر من تظهير لواقع بدأ يوم ٢١ تشرين الثاني ٢٠١١، يوم نفذت قوى ١٤ آذار قرار إخراج عرسال من «كنف الدولة». فعشية «عيد الاستقلال» عامذاك، اختُطفت دورية من استخبارات الجيش في البلدة، لمنعها من توقيف مطلوب بجرم الانتماء إلى تنظيم إرهابي. وبعد إحراق سيارات الدورية وتجريد عناصرها من أسلحتهم، شنت قوى ١٤ آذار حملة سياسية ـــــ إعلامية، هدفها جعل عرسال «منطقة آمنة» للمعارضة السورية المسلحة. وكان لها ما أرادت. كان سلب الجيش حق التحرك في السلسلة الشرقية جزءاً من قرار أميركي باستخدام الجماعات المسلحة، بصرف النظر عن انتماءاتها وتوجهاتها، لإسقاط الدولة السورية، مع الرهان على إمكان التحكم بهذه الجماعات (في تكرار لتجربة أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي ـــــ يجري اعتماد النموذج نفسه في اليمن اليوم).
«الضعف التكويني» للبنان، معطوفاً على «عطب» الإدارة السياسية، جعلا خطر التنظيمات الإبادية يرتقي إلى مستوى الخطر الإسرائيلي، إن لم يكن متفوقاً عليه في بعض الجوانب. على سبيل المثال، في مواجهة الخطر الصهيوني، كان لبنان يستند إلى العمق السوري. أما الخطر الآخر، فكان يهدد، قبل لبنان، ليس سوريا وحدها، بل العراق أيضاً وسائر الإقليم، في ظل تهديد إسرائيلي قائم على مدار الساعة. وهشاشة لبنان كانت كفيلة بجعل مصير سكانه شبيهاً بما جرى على أهل الموصل وسهل نينوى والرمادي والفلوجة والرقة وغيرها من الحواضر السوراقية التي لم يُزَل ركام مبانيها المدمرة بعد، ولا اجتمع شمل عائلاتها، وبقي الكثير من جثث قتلاها تحت الحطام حتى اليوم. ولم يكن قادة التنظيمات الإبادية لينتظروا سقوط الدولة السورية ليجتاحوا الجار الصغير. رأوا أن سيطرتهم على الحدود اللبنانية ــــ السورية، وزخم تقدّمهم في سوريا والعراق، والضعف اللبناني، وسوء الإدارة السياسية، وتكبيل الجيش، كلها عوامل تعبّد لهم طريق الوصول إلى البحر المتوسط. وبلوغ البحر كان يمرّ باحتلال لبنان كاملاً.
في ظل غياب الدولة، بدأت المقاومة التحضير للتحرير. كانت قيادتها تدرك أن القتال داخل لبنان وحده بلا طائل، إن لم يٌمهَّد له بضرب جذور المشروع في سوريا. وبعد اتخاذ إجراءات دفاعية في محيط الأراضي اللبنانية المحتلة، باشرت المقاومة العمل داخل سوريا، للفصل بين المناطق اللبنانية المحتلة، والعمق الجغرافي لمسلحي «داعش» و«النصرة». على مراحل، إلى جانب الجيش السوري، حُرِّر معظم المساحات المقابلة للسلسلة الشرقية، قبل أن يُحصَر التهديد الإرهابي في بقعة محددة داخل لبنان، في انتظار التوقيت الملائم للتحرير الكامل. ولم تحن اللحظة المواتية إلا ربطاً بتغيير الإدارة السياسية في بيروت، بوصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، وبتوسيع رقعة الأمان في الداخل الشامي، وتسديد ضربة قاصمة إلى المشروع «الداعشي» في العراق.
قهوجي: «داعش» هاجم عرسال ليس كردة فعل على توقيف أحد قادته، بل لأنه ينوي إقامة إمارة
الهجوم الذي بدأته المقاومة بقصف تمهيدي لمواقع «النصرة» في العشرين من تموز ٢٠١٧ في جرود عرسال، تزامناً مع قصف الجيش السوري لمواقع الإرهابيين على الجانب الآخر من الحدود، لم ينتهِ بتحرير الجرود واستعادة جثامين شهداء الجيش وحسب. بل أدى، في ما أدى إليه، إلى تحرير القرار اللبناني من آخر المعوِّقات التي حالت سابقاً دون خوض الجيش معركة الأرض المحتلة في السلسلة الشرقية.
هزيمة «داعش» وأشباهها في المشرق، تشبه ـــ وإنْ بصورة معكوسة ــــ ما جرى في فلسطين، قبل عام ١٩٤٨. عندما بدأ الصهاينة بالاستيطان، كان اجتثثاهم سهلاً. لكن أسباباً شتى حالت دون ذلك، أولها غياب إرادة تفعيل القوة لدى حكام الدول العربية، المنقسمين بين متخاذلين وعملاء وفاشلين. إنجاز التحرير الثاني، يوم ٢٦ آب ٢٠١٧، كان خاتمة القرار باجتثاث التنظيمات الإبادية، قبل تمكّنها من تكرار ما جرى في فلسطين قبل ٧٠ عاماً، لكن هذه المرة على امتداد العراق وسوريا ولبنان.
--
ريفي يلاطف وزراء حزب الله وسلام يركن للصليب الأحمر!
في محاضر جلسات مجلس الوزراء الممتدة من آب ٢٠١٤ حتى شباط ٢٠١٥، كانت قضية جنود الجيش المخطوفين الحاضر الأول. لكن الأبرز كان غياب الرؤية لكيفية معالجة هذه الأزمة. الرئيس تمام سلام كان يتعمد إخفاء معلومات عن اتصالاته الخارجية، خشية تسريبها إلى الإعلام. يُضاف إلى ذلك، استناده في جلسة السابع من آب ٢٠١٤، إلى «معلومات الصليب الأحمر» عن أن عرسال خالية من المسلحين، بدل الركون إلى تقارير الأجهزة الأمنية اللبنانية.
في تلك الجلسات، خلافاً لما كان يشاع خارج المجلس، لم يعارض حزب الله مبدأ التفاوض لتحرير الجنود المخطوفين. لكن الوزير محمد فنيش نبه إلى ضرورة تجميع أوراق قوة، وعدم إظهار الضعف والانقسام أمام الخاطفين. واللافت أن من أعلن «تفهّمه» لكلام فنيش لم يكن سوى الوزير السابق أشرف ريفي الذي، وخلافاً لأدائه خارج المجلس، كان لطيفاً مع زميليه من حزب الله، إلى درجة إصراره على أن تضم اللجنة الوزارية المكلفة متابعة قضية المخطوفين وزيراً من الحزب، وهو ما رفضه فنيش لأن ذلك قد يثير ردود فعل سلبية. أما وزراء التيار الوطني الحر، فقد كانوا مصرين على إجراء مراجعة لمرحلة ما قبل احتلال عرسال، ولتجربة مفاوضات الأسابيع الأولى بعد الخطف، وكذلك معرفة سبب عدم الكشف عن مصير عسكريي الجيش المخطوفين في مقابل معرفة معلومات عن عناصر الأمن الداخلي.
إدارة تمام سلام لمجلس الوزراء جعلت الحكومة أشبه بملتقى سياسي تتكرر فيه، غالباً، النقاشات التي تعرضها برامج الـ «توك شو»، أكثر من كونه سلطة سياسية تتخذ القرارات. ولعل أخطر ما ظهر حينذاك هو حديث قائد الجيش السابق عن الذخيرة التي يحتاج الجيش إلى إمداده بها من قبل الأميركيين بعد ٥ أيام فقط على احتلال عرسال، أو من الهبة السعودية (قبل إلغائها)، لأن الدولة اللبنانية لم تنفق في العام 2013 سوى مليوني دولار أميركي على شراء ذخائر للجيش، ولم تدفع أي مبلغ للغرض ذاته في الأشهر الثمانية الأولى من ٢٠١٤!