يزداد الوضعُ غموضاً في الشرق الأوسط وتتضارب المؤشرات بين سلبية وإيجابية. ولا جدال أنّ الولايات المتحدة الأميركية تبقى صاحبة التأثير الأكبر في الشرق الأوسط رغم اقتطاع روسيا مساحة نفوذ واسعة في المنطقة، ولأنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعيش أياماً صعبة بسبب أزمته الداخلية ما حدا بصحيفة «النيويورك تايمز» الى وصفه بـ«شارد الذهن وبأنه يعيش أسوأ أيام حياته» فإنّ سياسته باتّجاه ترويض إيران تزداد تهوّراً وهو الذي بات يريد تفاهماً معها لكن في وقت قصير، وهو ما يتناقض مع السلوك التفاوضي لإيران تاريخياً.
تبدو الصورة في واشنطن صعبة لدرجة أنّ ترامب بحث مع فريق عمله فرضيّة «إجراءات عَزله» وسط توقعات بأنّ الديموقراطيين سيباشرون في هذا المسار فور إعلان فوزهم في الانتخابات النصفية.
لذلك حثّ ترامب الزعماء الدينيين الإنجيليين على استخدام قوة منابرهم للتأثير في تصويت أتباعهم في السادس من تشرين الثاني المقبل ومحذِّراً، وربما مهدِّداً بأنّ خسارة حزبه ستؤدّي الى العنف.
لذلك اعتبر محامي ترامب وعمدة نيويورك السابق وأحد اكثر القريبين منه رودي جولياني بأنّ الانتخابات النصفية ستكون بمثابة استفتاء على ترامب، واضاف: ستكون حول مساءلة ترامب أوعزله ولكنني اعتقد أنها سترسّخ وجودَه في البيت الأبيض.
ولم يكن ستيف بانون المستشار السابق والأبرز لترامب بعيداً عن هذا التوجّه حين قال بأنّ انتخابات السادس من تشرين الثاني ستكون استفتاءً على ترامب او التصويت من أجل إقالته.
وفي واشنطن إقرار ضمني بفشل سياسة ادارة ترامب في سوريا وفي الشرق الاوسط كما في العديد من الملفات الدولية مثل كوريا الشمالية.
من هنا طلبت ادارة ترامب مساعدة روسيا في الشرق الاوسط، ففي الاوساط الديبلوماسية همْس حول سعي ترامب ومن خلال وزير خارجيته مايك بومبيو الذي سيلتقي نظيره الروسي، مقايضة روسيا بين موعد البدء بفرض العقوبات عليها وبين مساعدته في اوكرانيا وسوريا وإيران.
وكي لا نخطىء في التقدير فإنّ إدارة ترامب هي اكثر الإدارات الاميركية تفاهماً مع موسكو لكن وبسبب الازمة الاميركية الداخلية حول الملف الروسي فإنّ الادارة الاميركية تتعمّد إبراز صورة الصراع مع موسكو، كون ذلك يخفّف من حَرَجها الداخلي.
ففي البحر الابيض المتوسط مناورة روسية يجري التسويق بأنها تهدف فعلياً لمنع التحالف الذي تقوده واشنطن من توجيه ضربة ضد مواقع الجيش السوري في سوريا وقطع الطريق امام واشنطن لإقامة منطقة حظر جوّي. ولذلك أغلقت موسكو المجال الجوي والبحري قبالة السواحل السورية اعتباراً من 31 آب الماضي. وتتضمّن المناورة الروسية صدّ هجوم صاروخي على شاكلة صواريخ كروز على مسافات بعيدة.
لكنّ بعض التدقيق يُظهر أنّ موسكو أزالت أيّ حرَج اميركي للتورط اكثر في الملف السوري بحجة تجنّب الاصطدام العسكري بروسيا.
لكنّ هذا لا يعني بالضرورة التطابق بين السياستين الاميركية والروسية. فالخلاف حول إدلب موجود بين استعجال روسي لإنهاء الملف وترسيخ نفوذها الواسع بأقل كلفة وبين تمهّل أميركي لحسابات التوازنات السورية مستقبلاً بالتفاهم مع تركيا التي تختلف معها في ملفات اخرى كثيرة.
وترامب «الكئيب» نتيجة اهتزاز كرسيه يضغط بقوة أكبر على إيران على أمل إجبارها على الجلوس سريعاً حول طاولة المفاوضات.
ففيما تسعى واشنطن لخفض صادرات إيران النفطية الى الثلث خلال الاسابيع القليلة المقبلة، فهي تلوّح بالعمل على وقف كامل التصدير النفطي مع حلول تشرين الثاني المقبل.
وبذلك يريد ترامب الضغط بقوة اكبر على الداخل الإيراني من خلال خنقه اقتصادياً لكنّ واشنطن بدأت تسجّل إخفاقات في سياسة الضغط الكبيرة على طهران. فعوض أن ترتفع النقمة الشعبية بوجه التيار المتشدّد، نجح مرشد الثورة وفريقه في «تنقية» الملف الاقتصادي من الأهداف السياسية عبر تسويقه في الداخل الايراني في اطاره الاقتصادي لا السياسي. لا بل اكثر فهو نجح في تحويل الضغط باتّجاه التيار الإصلاحي الذي لطالما عوّلت عليه واشنطن والعواصم الغربية من خلال تسليط الضوء على الفساد بدل العقوبات واتّهام الاصلاحيين بالتسبّب بالصعوبات الاقتصادية وتقويض شرعية النظام ومصداقيته.
وشكّلت إقالة وزير الاقتصاد الإيراني صفعة قوية لروحاني قبل توجيه ضربة اقوى له بما يشبه المحاكمة داخل البرلمان.
وأرفق التيار المتشدّد خطواته هذه بإصدار عفو أو تخفيف عقوبة عن حوالى 600 سجين.
الواضح أنّ المحافظين نجحوا في احتضان الشارع فيما دفع الإصلاحيون الثمن وهو ما يعني الكثير للغرب الذي راهن طويلاً على دور هؤلاء. ووفق ذلك اعتُبر ترامب بأنه أحرق ورقة إيرانية فائقة الاهمية بسبب سياسة غير مدروسة. ولكنّ الديبلوماسي الاميركي الخبير في شؤون المنطقة دينس روس يعتقد أنّ إيران ستبحث عن وسيلة للحوار مع واشنطن ولكن ليس بشكل مباشر لأنّ ذلك سيبدو بمثابة الاستسلام، مرشّحاً روسيا للعب دور الوسيط، ومبدياً اعتقاده من اقتراب طهران من موسكو بدءاً من اوائل العام المقبل. لكنّ المشكلة انّ ترامب يريد اتّفاقاً الآن، فيما طهران قادرة على تمرير الوقت وهي باشرت بإبراز مخالبها. فالحوثيون في اليمن يستمرون في أدائهم الهجومي والذي كانت آخر محطاته مهاجمة قطعة عسكرية بحرية سعودية مع استمرار إطلاق الصواريخ البالستية على الداخل السعودي في تلويح لإمكانية المزيد وبوتيرة مكثفة.
وفي العراق قلق اميركي من صواريخ ايرانية بالستية زوّدَت بها إيران حلفاءَها، ما يعني فتح احتمالات استعمال المنصة العراقية في الصراع الدائر. وفي سوريا زيارة لوزير الدفاع الإيراني وتفاهم كامل حول المرحلة المقبلة فيما يخصّ نفوذ ومصالح إيران.
باختصار تلوّح إيران بمسرح عمليات اكبر للحرب، وتطوير بعض مفاهيم المواجهة. وتعلم إيران جيداً أنّ إدارة ترامب لا تريد ولا تخطّط لمواجهة مباشرة في الشرق الأوسط لألف سبب وسبب، واما بالنسبة للحرب بالواسطة فهي قادرة على المقارعة وفرض شروطها، لكن الى جانب إبراز المخالب، فإنّ طهران ترسل الاشارات الإيجابية في آن معاً فمثلاً ترشيح فالح الفياض لرئاسة الحكومة العراقية وهو الذي يُعدّ تقاطعاً إيرانيا- أميركياً، يشكّل رسالة مرنة وسط فوضى خلط الأوراق بعد الانتخابات العراقية. ما يعني أنّ لعبة عضّ الأصابع الحاصلة لن تذهب باتّجاه العداء الكامل ولا باتّجاه انفجار الحرب لكنّ ثمّة مَن يتخوّف بأنّ الانزلاق الى الحرب يحصل احياناً نتيجة أخطاء غير محسوبة.
فعلى سبيل المثال فإنّ الحرب الإسرائيلية ضد لبنان عام 2006 وضد غزة عام 2014 حصلتا نتيجة تصعيد غير مقصود فيما أيّ انفجار في الشرق الأوسط لن يكون محصوراً في مكان محدّد بل قد يطال الخليج العربي هذه المرة.
تحت كل ذلك ترزح حسابات الحكومة اللبنانية، خصوصاً وأنّ الجميع منشغل بحسابات إخضاع الآخر.