صحيحٌ أنّ بند العلاقة "الإشكالية" مع سوريا أزيل من "الألغام" الموضوعة في وجه تشكيل الحكومة، خصوصاً بعد كلام الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله الأخير الذي "رحّله" إلى ما بعد التأليف، إلا أنّ "الاندفاعة" اللبنانية باتجاه سوريا من جانب وزراء في حكومة تصريف الأعمال في الساعات الماضية، أوحت بإعادة خلطٍ للأوراق بشكلٍ أو بآخر.
وإذا كان "معرض دمشق الدولي" الذي تستضيفه العاصمة السورية شكّل "المبرّر" لزيارات الوزراء، وإذا كان القاصي والداني يعلم أنّ هذه الزيارات التي لم تعد مقتصرة على "حزب الله"، ليست الأولى من نوعها، فإنّ مفارقات متعدّدة توقف عندها كثيرون، بدءاً من تصنيفها "الرسميّ" من البعض، وصولاً إلى المحادثات التي رافقتها، وحملت أكثر من رسالة.
إزاء ذلك، تُطرح العديد من علامات الاستفهام، فما الذي تغيّر حتى تصبح الزيارات بهذا الشكل المُعلَن، ما يشكّل برأي البعض خروجاً على سياسة النأي بالنفس المُعلنة من جانب الحكومة؟ وأيّ رسالةٍ حملتها الزيارات، وكيف يمكن أن يتلقفها رافضو التطبيع مع سوريا، وفي مقدّمهم "تيار المستقبل"؟!.
زمن "النأي بالنفس" ولّى؟
خلال 24 ساعة فقط، حلّ كلّ من وزير الصناعة حسين الحاج حسن عن "حزب الله"، ووزير الزراعة غازي زعيتر عن "حركة أمل"، ووزير الأشغال العامة والنقل يوسف فنيانوس عن "تيار المردة"، ووزير السياحة أفيديس كيدانيان عن حزب "الطاشناق" وتكتل "لبنان القوي" في سوريا تحت عنوان المشاركة في معرض دمشق الدولي، مع عقدهم محادثاتٍ على هامشه مع وزراء ومسؤولين سوريين.
لا شكّ أنّ هذه الزيارة "الجماعية" سبقتها زيارات "فردية" لعدد من الوزراء، بعضها حصلت في العلن وآخرها كانت زيارة للحاج حسن قبل فترة وجيزة، وبعضها الآخر حصلت في السرّ أو من خلف الكواليس ومن دون ضجّة إعلامية، وبالتالي يمكن القول ان لا جديد في هذه الزيارات سوى أنها حصلت هذه المرّة بشكل جماعي في إطار مناسبة محدّدة هي معرض دمشق الدولي، ما جعل الأضواء تسلَّط عليها أكثر.
مع ذلك، يرى الكثيرون أنّ "الضجة" التي أحاطت بهذه الزيارة "مفتعلة" من جانب الوزراء الذين ينتمون إلى أحزاب سياسية لطالما كانت مؤيدة للنظام السوري أو بالحدّ الأدنى لتطبيع العلاقات معه، وهي "ضجّة" أرادت من خلالها هذه القوى توجيه رسائل بالجملة إلى كلّ من يعنيه الأمر، خصوصاً أنّ التواصل قائم وهو ما يعرفه القاصي والداني، وهناك الكثير من الزيارات التي حصلت سابقاً بعلم رئيس الحكومة بل بموافقته الضمنية، ولو لم يعلن ذلك بوضوح وصراحة.
أكثر من ذلك، لا تتردد بعض أوساط الثامن من آذار في المجاهرة بأنّ زمن "النأي بالنفس" ولّى، لأنّ مصلحة لبنان هي التي تقتضي اليوم الحفاظ على الحدّ الأدنى من التواصل مع الحكومة السوريّة، علماً أنّ المحادثات التي أجراها الوزراء على هامش معرض دمشق ناقشت العلاقات التجارية والاقتصادية، التي تعود بالنفع على لبنان قبل سوريا. وتسأل هذه الأوساط عن جدوى اعتبار الزيارات "لغماً" أو "تحدياً" لفريق معيّن، في وقتٍ تقترب الحرب في سوريا من نهايتها، وهو ما أدركه الكثير ممّن شارك في الحرب السورية بشكلٍ أو بآخره، بدليل ما يُحكى عن قنوات اتصال فُتِحت خلف الكواليس بين سوريا والعديد من دول الخليج وحتى الولايات المتحدة.
"إحراج" للحريري
انطلاقاً ممّا سبق، يبدو أنّ وزراء الثامن من آذار ينطلقون في زياراتهم إلى سوريا من "المصلحة اللبنانية البحتة" كما يقولون، باعتبار أنّ المتغيّرات الحاصلة في الميدان السوري تستدعي اليوم مقاربة من نوع آخر، خصوصاً في ضوء ما بات يُحكى عن أنّ سوريا مقبلة على المعركة الكبرى الأخيرة والفاصلة في إدلب، لتتغيّر بعدها الكثير من المعادلات. إلا أنّ ذلك لا ينكر في الوقت نفسه "الأبعاد السياسية" لهذه الزيارات، التي يحرص على القيام بها وزراء من "لون سياسي واحد" يجاهر بتأييده للنظام السوري، بعيداً عن أيّ نأي بالنفس أو ما شابه ذلك.
من هنا، يرى البعض أنّ هذه الزيارات شكّلت في مكانٍ ما إحراجاً لرئيس الحكومة المكلف، خصوصاً في ضوء إصرار الوزراء على توصيف الزيارات بـ"الرسمية" خلافاً للواقع، باعتبار أنّهم لم يحصلوا على أيّ تكليف من مجلس الوزراء للقيام بها، وهو "شرطٌ" لأيّ مهمة "رسمية" يقوم بها أيّ كان. ويعتبر أصحاب هذا الرأي أنّه إذا كان صحيحاً أنّ لدى هؤلاء الوزراء "صفة رسمية" كونهم وزراء في حكومة تصريف الأعمال التي لا تزال قائمة حتى إشعارٍ آخر، فإنّ الصحيح أيضاً أنّهم بذهابهم إلى سوريا من تلقاء أنفسهم لا يقومون بـ"مهمة رسمية"، ولو قالوا إنّ الزيارة تتمّ تلبية لدعوة رسمية تلقوها من الجانب السوري.
ولعلّ ما يضاعف "الإحراج"، أن الحريري سبق أن أطلق مواقف معارضة للزيارات إلى سوريا وقال إنّه لن يقبل بالذهاب إلى سوريا ولو اقتضت مصلحة لبنان ذلك، علماً أنّ هناك من يربط هذا الموقف بـ"العاصفة" التي سبق أن أثارتها مسألة الزيارات أيضاً، والتي كانت أحد الأسباب التي أفضت إلى استقالة الحريري الشهيرة من الرياض، قبل أن يعود عنها في بيروت بـ"إخراج" ضَمِن التأكيد على سياسة "النأي بالنفس". وثمّة في هذا السياق من يضع مواقف الحريري هذه في إطار محاولته الوقوف على خاطر السعودية، بل يرجّح أن يبقى الحريري متمسّكاً بموقفه هذا، طالما أنّ السعودية لم تقم بتطبيع علاقاتها مع النظام، أو لم يحصل على "ضوء أخضر" منها للقيام بذلك، خصوصاً أنّ علاقته بها لا تزال "إشكالية" إلى حد بعيد كما يعتقد كثيرون.
رؤية جديدة
ليست المرّة الأولى التي تثار فيها إشكالية العلاقة مع سوريا، والزيارات التي يقوم بها بعض الوزراء إلى هناك، لكنّ الجديد يتمثل اليوم في الظروف المرافقة لهذه الزيارات.
باختصار، يمكن القول إنّ الكثير تغيّر، ولم يتغيّر شيء في الوقت نفسه. فإذا كانت الحرب السورية أوشكت على نهايتها، كما يعتقد مؤيدو النظام، فإنّ المواقف اللبنانية على الأقلّ، لا تزال هي هي، من النظام والمعارضة والحرب برمّتها.
شيءٌ واحدٌ يبدو أكيداً وسط ذلك، وهو أنّ هذه الزيارات وإن أثارت سجالاتٍ سياسيّة هنا وهناك، فإنّها لن تؤدي إلى "عاصفة" كالسابق، لأنّ مرحلة "إعادة الإعمار" التي تقترب، وسعي جميع أصحاب الشأن إلى استغلالها قدر الإمكان، تفرض "رؤية" جديدة بالحدّ الأدنى...