عندما توقف القطار في لبنان، بسبب الحرب الأهلية، بقي الموظف المسؤول عن إقفال أحد الطرقات في جونيه أمام السيارات حين مرور القطار مواظباً على عمله يومياً مانعاً التعدي على ممتلكات الدولة، وفارضا «وهرة» راحت تتلاشى مع الايام. كانت سكة الحديد فارغة لكن الدولة كانت موجودة من خلال هذا الموظف. كان هو وغيره من الموظفين المواظبين على عملهم يوميا يحافظون على صورة الدولة وهيبتها وحضورها في عز زمن الميليشيات، وكيف ننسى أولئك الذين كانوا يقطعون خطوط التماس للوصول الى اعمالهم ووظائفهم وقد استشهد منهم الكثير في معابر الموت.
مع الأسف، يحدث اليوم العكس. نعيش منذ سلام الطائف تدميرا ممنهجا ومنظما للادارة العامة، إما عبر اغراقها بالمحاسيب او عبر تحميلها مسؤولية المديونية العامة، وعبر عدم تطويرها لا بل تحويلها الى محميات طائفية وحزبية. ان انهيار مؤسسات القطاع العام من مدارس رسمية وجامعة وطنية ومطار كمرفق عام ومؤسسة كهرباء لبنان من دون ان ننسى تراجع دور القضاء وغيره من الادارات والمؤسسات، هو أخطر على لبنان من الفراغ الرئاسي أو الحكومي أو النيابي مهما طال، كون الادارة على تماس مباشر مع حاجات المواطن اللبناني، ومن خلالها لا بل في اروقتها، نؤسس للدولة كفكرة ومنظومة... ولكن يبدو ان الطبقة السياسية مطمئنة الى وضعها طالما أنها تتحكم بنا. اما امثال ذلك الموظف المثابر الصامد، فلا ضرورة له في أيامنا هذه، وسمتها توافقات وصفقات ومغانم... وليسقط الهيكل على من فيه طالما هنالك من يَحكم وهنالك من يُحكم ولا محاسب أو مراقب، ولا موظف في كل الدولة يصدمنا بهيبته ووهرته التي صارت مفتقدة.