لم يكن مسار المَحكمة الدولية مفروشاً بالورود منذ لحظة تشكيلها حتى اليوم، حيث أنّها تعرّضت لكل أنواع العرقلة المُمكنة، بدءاً برفض الإعتراف بها، والتشكيك إعلاميًا بأهدافها وخلفيّاتها وتحقيقاتها، والسعي لإيقاف تمويلها، مُروراً باستهداف عدد من الأمنيّين البارزين الذين لعبوا دوراً رئيساً في تحقيقاتها بتفجيرات غادرة بهدف عرقلة تحقيقاتهم(1)، وتعمّد نشر أسماء الشهود لترهيبهم ودفعهم إلى التراجع، وُصولاً إلى رفض خضوع المُتهمين الخمسة المنتمين إلى "حزب الله"(2) للمُساءلة والمُحاكمة. لكن على الرغم من كل ذلك، إنطلقت جلسات المُرافعات الختامية في لاهاي. فهل يعني ذلك أنّ العدالة ستسود قريبًا، وما هي الإنعكاسات المُرتقبة على لبنان؟.
من المرتقب أن يصدر الحُكم النهائي للمحكمة الدَوليّة بحلول نهاية العام الجاري، مع هامش تأخير مُحتمل لبضعة أسابيع أو لأشهر قليلة لا أكثر، والمُرجّح أنّ هذا الحُكم سيُوجّه ما بات معروفًا من إتهامات نحو عناصر من "حزب الله"، وهو سيستند إلى ما صار معروفًا أيضًا من أدلّة ومُعطيات. فوفق ما تردد في افادات الشهود، فإن رئيس الوزراء السابق الراحل رفيق الحريري كان خلال الفترة التي سبقت إغتياله على علاقة سيئّة(3) مع كلّ من رئيس الجمهورية الأسبق المُمدّد له إميل لحّود، ومع النظام السُوري الذي فرض هذا التمديد آنذاك على مجلس النوّاب اللبناني، ومع الأفرقاء السياسيّين الذين يُصنّفون في خانة النظام المذكور، كما انه قيل الكثير عن دور محتمل للحريري والوزير مروان حمادة(4) في المساهمة في صدور القرار الدولي رقم 1559 الذي كان صدر في 2 أيلول 2004 والذي نصّ على "دعم مسار انتخابي حر وعادل في الانتخابات الرئاسية المقبلة في لبنان، وأن تجرى وفقا للقواعد الدستورية اللبنانية دون تدخلات أو تأثيرات خارجية، وانسحاب كل القوّات الأجنبيّة من لبنان، وإلى حلّ جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها..." وبالتالي، يُنتظر ان يضع قرار المحكمة الجريمة في زمانها الفعلي، وفي ظروفها آنذاك، بعيدًا عن مُحاولات التزوير التي تتحدّث عن فترات أخرى كانت فيها علاقة الحريري جيّدة مع كامل قوى المحور المُتهم بالجريمة.
والواضح أيضًا أنّ الحُكم النهائي سينطلق من المُعطيات والأدلّة التي تستند بالدرجة الأولى إلى ربط مجموعات من الهواتف المحمولة بعمليّة الإغتيال، بدءًا بمراقبة حامليها لتحرّكات موكب الحريري حتى تنفيذ التفجير الذي إستهدفه، وذلك إستنادًا إلى موقع كل منها خلال تحرّك الموكب ولحظة تنفيذ الجريمة، وإلى أوقات نشاطها وإقفالها. كما سترتكز الأدلّة على ربط مُستخدمي هذه الهواتف ببعض الأشخاص الذين جرى التعرّف إلى هويّاتهم بشكل تدريجي. وعلى الرغم من توقّع إتهام عناصر من "حزب الله" بالجريمة، فإنّ هذه الإتهامات ستنحصر بالأشخاص المعنويّين المُتورّطين في العمل الجُرمي مُباشرة، بعيدًا عن أي إتهامات سياسيّة أو عامة تطال حزبًا بكامله أو دولة بكاملها.
لكن قرب صُدور الحكم النهائي لن يُغيّر شيئًا من الأمر الواقع السائد منذ سنوات، حيث يرفض "حزب الله" الإعتراف بالمحكمة وُصولاً إلى حد وصفها بالإسرائيليّة، وهو يرفض أيضًا ما تستند إليه من أدلّة، مُبرّرًا ذلك بسُهولة خرق "داتا الإتصالات" في لبنان، وبعدم ثُبوت أي جرم ملموس من مُجرّد التخابر الهاتفي، بعكس رأي فريق الإدعاء الذي يعتبر أنّ التخابر الكثيف بين أفراد من "الحزب" في محيط موكب الحريري، وخلال تحرّكه ساعة وقوع الجريمة، ومن ثم إطفاء كل الهواتف التابعة للشبكة بعد حُصول الإنفجار، كاف لإثبات التورّط المُباشر.
في كل الأحوال، من المتوقع ان يصدر الحُكم انما من دون قدرة تنفيذية على جلب أي مُتهم أو مُدان إلى المُحاكمة. وهو بالتالي سيكون مُجرّد إدانة معنويّة، سيتقبّلها بعض الأفرقاء في لبنان وسيعتبرونها جزءًا من إعادة الإعتبار للشُهداء، بينما سيرفضها أفرقاء آخرون ويعتبرونها فصلاً جديدًا من المؤامرات والضغوط ضُد المقاومة. والفترة الفاصلة بين تاريخ وقوع الجريمة والتاريخ المتوقّع لصُدور الحُكم النهائي، حفلت بمتغيّرات عدّة أفرغته من كثير من مضمونه، ومن أهمّيته، وخُصوصًا من تأثيراته على الوضع الداخلي في لبنان. وكلام رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري الأخير من لاهاي خير دليل على أنّ الأمر الواقع القائم في لبنان سيستمرّ كما هو بعد صُدور الحكم. وبالتالي، الإنعكاسات المُرتقبة لن تتجاوز تسعير الجوّ السياسي والإعلامي لبعض الوقت، وزيادة الأحقاد بين بعض شرائح المُجتمع اللبناني لا أكثر، وإن كانت بعض الجهات الخارجية ستستغلّ الحُكم لزيادة الضُغوط على "الحزب".
في الخُلاصة، إنّ العجز اللبناني–الدَولي عن القبض على المُتورّطين في جريمة إغتيال الحريري، وعن إحقاق العدالة، بفعل الحماية المتوفّرة لهؤلاء ماديًا وعمليًا من جهة، وسياسيًا وطائفيًا من جهة أخرى، لا يُلغي جرائمهم. وأكبر دليل على أنّ هذه الجريمة، وكل باقي الجرائم التي طالت شخصيّات لبنانيّة عدّة منذ العام 2005 وصولاً حتى إغتيال الوزير السابق محمد شطح في 27 كانون الأوّل 2013، تدخل في سياق واحد، أنّ مُنفّذيها أحرار، وأنّ التحقيقات بشأنها غائبة تمامًا حتى لا نقول مَمنوعة. فهل ستكون كذلك، لوّ أنّ إسرائيل–عبر عناصر عميلة لها، هي فعلاً الجهة التي تقف خلف هذه الجرائم؟.
(1) في طليعتهم الرائد في القوى الأمن الداخلي وسام عيد الذي نجح في وضع خريطة الخطوط الهاتفية التي شاركت في جريمة إغتيال الحريري، والذي إغتيل عند تقاطع فرن الشباك الحازمية في كانون الثاني 2008 بعد محاولة فاشلة لإغتياله في العام 2006 في “حي الأميركان” على أطراف الضاحية حيث كان يسكن في حينه، وصولاً إلى اللواء وسام الحسن الذي اغتيل في الأشرفيّة في 19 تشرين الأوّل 2012، علماً أنّ العميد في قوى الأمن الداخلي سمير شحادة وهو أحد مسؤولي التحقيقات في قضيّة إغتيال الحريري نجا هو الآخر من محاولة لإغتياله في منطقة الرميلة في 5 أيلول 2006.
(2) في 29 تمّوز 2011 أعلنت المحكمة الدولية أسماء أربعة مشتبه فيهم ينتمون إلى “حزب الله” هم مصطفى بدر الدين (صهر القيادي في “حزب الله” عماد مغنّية الذي إغتيل بدوره في إنفجار قي دمشق في 12 شباط 2008)، وسليم جميل عيّاش، وحسين حسن عنيسي، وأسد حسن صبرا، ثم أضيف متهم خامس هو حسن مرعي (أضيف إلى لائحة المُتهمين الأربعة في تشرين الأوّل 2013).
(3) في 20 تشرين الأوّل 2004، قدّم رفيق الحريري إستقالة حكومته، مُعلناً إعتذاره عن تولّي منصب رئاسة الحكومة، وذلك إعتراضاً على كل الجوّ السياسي الذي كان قائماً في حينه. ولم تمرّ بضعة أشهر حتى تعرّض للإغتيال في 14 شباط 2005.
(4) إستقال في 9 أيلول 2004 من منصبه كوزير للإقتصاد الوطني والتجارة في حكومة الحريري الأخيرة مع غيره من أعضاء "الحزب التقدّمي الإشتراكي" رفضاً لتعديل الدستور وتمديد ولاية الرئيس السابق العماد إميل لحود تحت وطأة الضغوط والتهديدات السوريّة آنذاك. وبلغ تدهور علاقته مع النظام الأمني السوري–اللبناني ذروته بعد ذلك، ليتعرّض في الأوّل من تشرين الأوّل 2004، أيّ بعد أسابيع قليلة على إستقالته، لمحاولة إغتيال بسيارة مُفخّخة نجا منها بأعجوبة حيث قُتل مرافقه وأصيب هو بجروح بالغة.