في خطابه الأخير في قداس "شهداء المقاومة اللبنانية"، توجّه رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع بـ "كلمتين" إلى من وصفهم بـ"الإخوان في حزب الله"، داعياً إياهم إلى "العودة إلى لبنان بكل المعاني وعلى كل المستويات"، قائلاً إنه عندما تتحقق هذه العودة "ستجدوننا بانتظاركم".
باستثناء هذه الرسالة التي لا تحمل بين طيّاتها أيّ انطباعٍ نافر، خلا خطاب جعجع من انتقاداته المعتادة، المعلنة والمبطنة، للحزب. هو لم يتحدث عن مصادرة قرار الحرب والسلم من قبل "حزب الله"، ولم يطالب بنزع سلاحه ووضعه في عهدة الدولة اللبنانية، بل إنّه لم يهاجم الحزب على خلفيّة انغماسه في أزمات المنطقة، وتعريضه علاقات لبنان مع أصدقائه في المحيط للاهتزاز، كما اعتاد أن يفعل.
ولأنّ خطاب جعجع حمل في المقابل "هجوماً مباشراً" على من كانوا "أصدقاء" في الأمس القريب، وتحديداً "التيار الوطني الحر" ورئيسه وزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل، فإنّ علامات استفهامٍ تُطرَح عن أسباب "المهادنة"، بل "التودّد" إن جاز التعبير إزاء "حزب الله"، وكيف يمكن أن يتلقف الأخير مثل هذه الرسائل "القواتية"...
طموح رئاسي
تكفي مقارنة بسيطة بين خطاب جعجع الأخير وخطاباته السابقة، سواء في المناسبة نفسها أو غيرها، للاستنتاج أنّ "شيئاً ما" تغيّر في طريقة مخاطبته "حزب الله" بالحدّ الأدنى. فحتى حين كان يُحكى عن "انفتاح" قواتي على الحزب وعن مساعٍ وجهودٍ لالتقاءٍ ما بين الجانبين، لم تخلُ خطابات "الحكيم" من رسائل "نافرة" باتجاه الحزب وجمهوره.
وإذا كان البعض حاول التقليل من حجم "التغيير"، بالقول إنّ هناك انتقاداً خلف سطور كلام جعجع للحزب باتباع أجندة خارجية طالما أنّه يدعوه إلى "العودة إلى لبنان" ما يعني أنّ أولوياته مختلفة، فإنّ هذا "المنطق" يكرّس وجود "التغيير" ولا يلغيه، باعتبار أنّ ما كان يقوله "الحكيم" صراحة وجهاراً، بات يرسله من باب التلميح، وبحرصٍ شديدٍ على المفردات، حتى لا يُقرَأ كلامه بسلبيّة بأيّ شكلٍ من الأشكال.
وفي حين يعتبر "القواتيون" أنّ التغيير "الشكلي" ناتجٌ من إقرار "الحكيم" بالحيثية الشعبية التي يمثلها "حزب الله" في الواقع اللبناني، والتي أفرزتها الانتخابات النيابية الأخيرة التي جعلته يقتنع بضرورة التعامل مع الحزب بصورة واقعيّة، يرى كثيرون أنّه لا يمكن عزل خطاب جعجع وتودّده لـ"حزب الله" عن طموحه الرئاسي، خصوصاً أنّه يدرك أنّ البوابة "الطبيعية" لرئاسة الجمهورية تتطلب "تفاهماً" مع الفريق الشيعي، و"حزب الله" من ضمنه إن لم يكن على رأسه وفق ما أفرزته نتائج الانتخابات، علماً أنّ "القوات" تحصّن منذ فترة علاقتها مع "حركة أمل" ورئيس مجلس النواب نبيه بري أيضاً، ويمكن القول إنها قطعت أشواطاً على هذا الصعيد.
ولعلّ ما يعزّز هذه الفرضية أنّ جعجع فصل في الخطاب نفسه بين رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي أكد استمرار دعمه له وللعهد، وبين "التيار الوطني الحر" ورئيسه الوزير جبران باسيل الذي وجّه له الانتقادات يميناً وشمالاً، وهو الخصم الأبرز له في انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، ولو أنّ أوانها لا يزال مبكراً، قافزاً بذلك فوق "تفاهم معراب" الذي جمع الفريقين إلا أنّه أصبح في "خبر كان"، ولو أصرّا على التصريح بخلاف ذلك.
حلم "مستحيل"؟
لا يمكن القول إنّ انفتاح "القوات" على "حزب الله" يُقابَل بـ"أذن طرشاء" على ضفة الحزب، إذ إنّ أيّ مراقبٍ للواقع اللبناني يدرك أنّ استراتيجية الحزب تغيّرت أيضاً إزاء "القوات" منذ فترة، انطلاقاً من "مساكنتها" في الحكومة واعترافه بحيثيتها التمثيلية التي أفرزتها الانتخابات، وهو ما برز في تصريحاتٍ عديدةٍ لقياديين في الحزب في الآونة الأخيرة، بينهم أمينه العام السيد حسن نصر الله نفسه.
صحيحٌ أنّ العلاقات بين الجانبين لم تصل إلى حدّ فتح قنوات التواصل المباشرة، بعيداً عن الحكومة والبرلمان، وصحيحٌ أنّ الحزب لا يعتبر "القوات" اليوم صديقة أو حليفة، ولا يربطه بها أيّ تفاهم لا على الورق ولا في الرؤية الاستراتيجية، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ زمن "النفور المطلق" بين الجانبين ولّى، وهو الزمن الذي كان كلّ خطابٍ للسيد نصر الله يُستتبع بمؤتمر صحافي لجعجع يردّ فيه على الشاردة والواردة، بل حتى الفاصلة في كلام نصر الله، بل إنّ هناك في جمهور "حزب الله"، أو بين المقرّبين منه بالحدّ الأدنى، من يشيد بـ "مبدئية" لدى "القوات" رغم الخلاف والاختلاف.
لكن، وعلى الرغم من كلّ ذلك، لا يمكن لأحد من العارفين بأدبيات "حزب الله" أن يتصوّر إمكان أن يصل أيّ "تطبيع" بين الجانبين إلى حدّ دعم جعجع في أيّ انتخابات رئاسيّة، أو حتى "عدم ممانعة" انتخابه كما يفعل مع تكليف رئيس الحكومة سعد الحريري مثلاً، لاعتباراتٍ وحساباتٍ كثيرة مرتبطة بتاريخ وحاضر الرجل على حد سواء، ولو أثبتت السياسة اللبنانية أنّ كلّ أشكال التقلبات تبقى واردة فيها.
فإذا كان "حزب الله" يعترف بالحيثيّة التمثيلية لجعجع بموجب الانتخابات، ولا يعارض حضوره في الحكومة بثقلٍ وازنٍ، ولا يعترض في العلن على أقلّه على نوعية الحقائب التي يمكن أن يحصل عليها، فإنّ "تحفظاته" على الرجل في المقابل لا تجعل "تطبيع" العلاقات معه وارداً في المدى المنظور. وإذا كان البعض يقول إنّ "تاريخ" الرجل قد يكون عاملاً ثانوياً، باعتبار أنّ بعض "المتضررين" مباشرةً من هذا التاريخ، من حلفاء الحزب، ذاهبون بأنفسهم نحو "تطبيع" العلاقات السياسية، فإنّ "الحاضر" ليس أقلّ وطأة بالنسبة للحزب كونه يعتبر أنّ جعجع يمثل الأجندة السعودية، وذلك في ظلّ الصراع السعودي-الإيراني المرشح للتفاقم أكثر في المرحلة المقبلة، برأي البعض.
على خطى عون؟
ليست المرّة الأولى التي "تنفتح" فيها "القوات" على "حزب الله"، لكنّ ما لا شكّ فيه أنّ "الانفتاح" بدأ يتّخذ أشكالاً أكثر علنية من كلّ المرّات السابقة، بل تحوّل إلى "استراتيجية" واضحة المعالم، وإن "غامضة" الأهداف والنوايا، في ظلّ الخلاف الاستراتيجي الكبير بين الجانبين.
ومع أنّ الانتخابات الرئاسية لا تزال بعيدة، إلا أنّها بنظر الطموحين إلى الوصول إلى بعبدا، وفي مقدّمهم جعجع وباسيل، بدأت عملياً، بل ثمّة من يقول إنّ جعجع يسير في هذا الإطار على خطى عون ويحذو حذوه لعلّ الخاتمة تكون نفسها، والتفاهم مع "حزب الله" ليس سوى إحدى الخطوات "المؤسسة" لذلك.
ورغم كل المؤشرات، يصرّ جعجع على عدم اعتبار مثل هذا التفاهم "مستحيلاً"، ويسأل المحسوبون عليه، من كان يعتقد قبل سنوات أنّ ميشال عون مثلاً يمكن أن يكون مرشح "حزب الله" للرئاسة في يومٍ من الأيام؟!.