تبدو الصورة الحكومية شديدة السواد وأفقها مقفل وسط تمترس جميع الأفرقاء خلف شروط لا نيّة للتراجع عنها. وسوادُ الصورة يشتدّ مع المناخ الإقليمي الملتهب مضافاً اليه دخول المحكمة الدولية على الخط والتي تتّجه بخطى ثابتة الى اتّهام «حزب الله» باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لكنّ هذا الاستنتاج التشاؤمي والذي يذهب الى حدود استبعاد ولادة الحكومة قبل نهاية السنة الجارية، فهو يستند الى ظاهر الصورة، فيما البعض يملك قراءة مختلفة للمسار الحكومي استناداً الى معطيات اخرى تكمن خلف الصورة الظاهرة.
وفق هؤلاء فإنّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والذي كان لعب دوراً محورياً واساسياً خلال ازمة احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية العام الفائت، استمرّ على علاقة وطيدة برئيس الحكومة اللبنانية ساعياً في الوقت نفسه الى توظيف «مونته» لمصلحة إعادة العلاقة الى طبيعتها بين السعودية والحريري لما فيها من مصلحة كبيرة لكلا الطرفين. وبعد تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة جاءت الاشارة السعودية واضحة حول عدم تجاوز موقف «القوات اللبنانية». وأُضيف اليها موقف النائب السابق وليد جنبلاط وهو الذي دعته السعودية الى زيارتها بعد طول انقطاع. ولم تقف الرسائل السعودية هنا فقط، بل إنها نظّمت استقبالاً معبّراً لوزير الداخلية نهاد المشنوق وهو المتخاصم مع الحريري والطامح دائماً الى أن يدخل نادي رؤساء الحكومات. وفي الوقت نفسه فشل الحريري خلال زياراته للسعودية في تأمين لقاء مع وليّ العهد الامير محمد بن سلمان وسط استمرار أزمة أعماله الخاصة في المملكة.
في هذه الفترة كان الوزير جبران باسيل يراهن على تفاهم مع الحريري لإنجاز تشكيلة حكومية بعيداً من إشارات السعودية. وهو يستند في رهانه على المسار المشترك في الحكومة الاولى والذي شهد «تحالفاً» في معظم الملفات والذي سمح لاحقاً بتكريس تحالف انتخابي، ولو أنّ نتائجه جاءت خارج التعوقعات والآمال المعقودة. لكن في تلك الفترة كان الحريري متردّداً بين عدم إغضاب السعودية مجدداً وبين الشروع في تشكيلة حكومية بالتفاهم مع «التيار الوطني الحر». ولكن مَن شجّعه على اعتماد خيار عدم إغضاب السعودية مجدداً، باريس والتي بقيت على تواصل دائم مع الحريري، وهذا الواقع دفع بالوزير باسيل في إحدى المرات الى دعوة الحريري الى «شدّ حاله»، وفي الوقت نفسه جاء سلام رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للحريري «ناشفاً» في احتفال المدرسة الحربية في الأول من آب الماضي.
وفي تلك الفترة ايضاً حصل الصدام بين لبنان والمفوّضية العليا لشؤون النازحين السوريين والتي أزعجت الحريري.
ووفق هذه الصورة بقي الحريري واقفاً في المربّع نفسه متردّداً بين البقاء فيه أو الاستجابة لضغوط الداخل والتقدم بتشكيلة حكومية بالتفاهم مع باسيل.
والواضح أنّ باريس نصحت الحريري دائماً بعدم القيام بخطوة تُغضب السعودية. لكنّ ثمّة جديداً في موقف الحريري بدأ يظهر.
فهو بدأ يردد في حلقته الضيّقة وخلال تواصله عبر قنواته الخاصة مع بعض القوى السياسية اللبنانية أنه سيعمد قريباً الى تجاوز بعض العقد وإصدار تشكيلة حكومية بالتفاهم مع رئيس الجمهورية تقوم على اساس اربعة وزراء لـ»القوات اللبنانية» من بينها وزير دولة، وترك المقعد الدرزي الثالث لطلال ارسلان إذا كان مع حقيبة أو مَن يسمّيه (مروان خير الدين) إذا كان وزارة دولة. وفي المقابل يتعهّد «التيار الوطني الحر» بحلّ العقدة السنّية من دون إزعاج الحريري. وتبقى الاشارة الى أنّ «حزب الله» هو في صورة هذه الأفكار مباشرة.
وسيبرّر الحريري تشكيلته بالظروف الاقتصادية الصعبة وتمترس كل فريق خلف مواقفه ما يستوجب اتّخاذ قرارات صعبة على الجميع.
وقبيل انطلاقه الى حضور الجلسات النهائية للمحكمة الدولية بعث الحريري برسالة تطمين الى «حزب الله»، وهو استتبعها بموقف علني مطمئن ايضاً حين فصل في موقفه بين المحكمة والسياسة، بخلاف مقدمة مرافعة الادّعاء التي كانت سياسية بامتياز. ما يعني أنّ الحريري أعلن عزلَ الملفات السياسية اللبنانية بما فيها ملف تشكيل الحكومة عن تأثيرات المحكمة الدولية. وهو ما يمكن اعتباره بمثابة ضوء خافت لعزمه على وضع تشكيلة حكومية في فترة ليست ببعيدة.
وما يعزّز حجّة المراهنين على هذا المسار مسألتان:
ـ الأولى، الانعطافات الحادة السابقة التي اعتاد الحريري على القيام بها، إن خلال تشكيل الحكومات سابقاً، أو خصوصاً مع اعتماد خيار العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية ما يجعل الرهان على انعطافة جديدة له الآن بمثابة المسار الطبيعي.
ـ الثانية، الانسجام الكامل الذي ساد العلاقة الحكومية بين تيار «المستقبل» و»التيار الوطني الحر» خلال مرحلة عمل الحكومة المستقيلة والتي طاولت كثيراً من الملفات الصعبة والتي أخذت وما تزال جدلاً واسعاً مثل ملف الكهرباء. وهو ما يعني أنّ الحريري يجد نفسه أقرب الى فريق «التيار الوطني الحر» داخل الحكومة منه الى بقية الأفرقاء. اضافة الى التناغم في ملفات التعيينات وسواها.
ولذلك ربما اندفع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في خطاب هجومي عالي السقف بهدف قطع طريق «الانسحاب» على الحريري ومحاولة منعه من تنفيذ انعطافته الحادة مجدداً. وكذلك فعل جنبلاط من خلال رفع مستوى الاشتباك مع «التيار الوطني الحر»، والهدف هو الحريري.
وايضاً يمكن إدراج موقف رؤساء الحكومة السابقين ومواقف القوى السنّية في الخانة نفسها.
لكنّ المراهنين على انعطافة الحريري يعتقدون أنه سينفّذها الشهر المقبل او الذي بعده على ابعد تقدير.