كل شيء في سوريا يوحي بعودة سريعة لهيبة الدولة الى المناطق التي قبض عليها المسلحون في سنوات الأزمة. لم تكن دمشق تتوقع ذاك التطور السريع في عودة المناطق الى حضن الدولة، رغم ايمان السوريين، قيادة وجيشاً تحديدا، بأن المسلحين الى زوال. تسابق المسلحون في اعلان "التوبة الوطنية"، في ظل تصميم سوري-روسي-ايراني، على اقتلاع ظاهرة المجموعات المسلحة الارهابية. لكن عواصم عدة سارعت لحجز الأمكنة في سوريا، من خلال فرض أدوارها، والإيحاء بأن كل شيء فيها يمضي وفق خططها. من هنا جاء تسريب "إعلان مبادئ المجموعة المصغّرة من أجل سوريا"، التي تضم فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والسعودية والأردن. حاولت الدول الخمس المذكورة وضع شروط مسبقة على دمشق، ورفعت راية قرار مجلس الأمن 2254، للانطلاق منه والاستناد اليه في وضع شروط سياسية-حكومية في سوريا. كل تلك الشروط تخدم دمشق، لكن في مضمون البنود ما يثير علامات الاستفهام والتحدي مع دمشق وحلفائها، بدءاً من البند "أ"، الذي يتحدث عن حكومة "لا تكون راعية للارهابيين، ولا تؤمّن بيئة آمنة لهم. "مروراً بالبند "ج"، المتعلق "بقطع علاقات سوريا مع النظام الايراني ووكلائه العسكريين". والبند "د"، الذي يتحدث عن أن سوريا تلتزم بعدم تهديد جيرانها، والمقصود هنا اسرائيل. هذا البند يُعتبر فضفاضا، يرمي عمليا الى تطبيق شروط تل أبيب بشأن التواجد العسكري السوري، والحليف لدمشق، من ريف العاصمة الى القنيطرة. ويتدخل أيضا في شأن حلف السوريين مع عواصم وقوى فاعلة (المقصود ايران وحزب الله). أمّا مسألة النازحين، فلا عودة فوريّة لهم، بالنسبة الى الدول الخمس المذكورة، بل تحدث البند "ه" عن خلق شروط لهم من اجل ان يعودوا باسلوب آمن وطوعي وكريم الى منازلهم. وهنا بيت القصيد في عدم الرغبة الدولية بعودة النازحين السوريين، كي لا تعني العودة أن الازمة طوت صفحاتها نهائيا وبشكل كامل.
تعدد الدول الخمس تلك البنود، التي تحوي شروطا وعناوين لطمأنة خصوم دمشق، ليصل الجزء الثاني من الخطة الى "وجوب حصول اصلاحات سوريّة دستوريّة وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة"، وتقرن وثيقة الدول الخمس المساعدات الدولية لإعادة الإعمار "بالعملية السياسية" في كل منطقة.
لم يقتصر التصوّر على تلك العناوين، بل فنّد الرؤية الاصلاحية الدستورية، انطلاقا من طرح "تعديل صلاحيات الرئيس، لتحقيق توازن اكبر بين السلطات، وضمان استقلال مؤسسات الحكومة المركزيّة والاقليميّة". وهنا بدا التركيز على دور رئيس الوزراء وتحديد ادوار الحكومة، بعيدا عن موافقة الرئيس على تعيينهم. أي ان الهدف الدولي هو مسح جوهر النظام الرئاسي الذي تعتمده دمشق، واعادة تموضع للخريطة السياسية في النظام، التي قد يتبعها توزيع طوائفي، يكرر تجربة لبنان الفاشلة في نظامه الطائفي.
البنود تعدّدت، بشأن الأمن، وملفّات سياسية اخرى، وهي عناوين تم طرحها سابقا في حوارات سوريّة بعد اندلاع شرارة الازمة عام 2011, لكن العواصم الخمس ودولا أخرى، كانت تعتبر يومها ان اقل المقبول هو سقوط النظام، فسجّل التاريخ ان ذاك الأمر مستحيل سوريّاً، في حينه. لكن العواصم المعنية عادت لطرح تلك العناوين بعد خسارة الرهانات العسكرية والسياسية. فهل تقبل دمشق؟
بالطبع، لن ترفض سوريا طروحات الاصلاح. هي وحلفاؤها التزموا تنفيذ اصلاحات رددها السوريون مرارا، ولم تسمح ظروف الحرب بالتطبيق حينها. لكن تنفيذ تلك العملية الاصلاحية لن يكون وفق رغبة العواصم الخمس، بل استنادا الى رؤية سوريّة. بعدما ارتاحت دمشق الآن، وطوت صفحة "معزوفة ازاحة النظام"، وقد لا تقبل بتنفيذ املاءات خارجية في ايام الارتياح، سبق ورفضت تطبيقها في ايام تضييق الخناق عليها.
لكن، اذا كانت طلبات العواصم الخمس سياسية، بأطر "اصلاحيّة"، فماذا عن طلبات العواصم الفاعلة في سوريا، كموسكو وطهران؟ لا يقتصر الامر على الجوانب الميدانية، بل يتعداه الى ترسيخ حلف تكون فيه سوريا هي وسط عقد التحالف بين الروس والايرانيين، وليس كما قيل، إن هناك صراع نفوذ بين الدولتين. غير أنّ موسكو نفسها تطالب دمشق بتنفيذ اصلاحات سياسية ترعاها روسيا. وعلى هذا الاساس جاءت المصالحات وحسم القضايا الميدانيّة العالقة. بالطبع انها المرحلة السوريّة الجديدة، ليست على قاعدة الفرض الدولي، بل وفق مبدأ ان المنتصر يفعل ما يراه مناسبا، لأن الحرب عليه فشلت في ترويضه، ولن يقدّم في السلم تنازلات لم يقدّمها في الحرب.