فوجئ التيار الوطني الحرّ والحزب التقدمي الاشتراكي بما نشرته «الأخبار» أمس عن وجود توتّر طائفي في الجبل. توقّع المعنيون في التنظيمين طوال الأشهر الماضية أن ينتج التحريض وحملات التنكيل بالموظفين أخيراً، وئاماً ومحبّة ومواطنة في قرى الشوف، فقرّروا على عجل التحرّك لوأد الفتنة المكتشفة حديثاً، مع جرعة حرص زائدة على السلم الأهلي
قيل في كتاب التاريخ المدرسيّ، إن الاقتتال الأهلي عام 1860 جَرَّه خلاف بين ولدين درزي وماروني، على «كِلّة» في دير القمر. كذبة اتفق اللبنانيون على تصديقها بغية تسطيح المذبحة... والتأسيس لمذابح أخرى مرة كل مئة عام، أو أقصر، مع التطوّر التكنولوجي والعسكري والتخلّف الطائفي والهويّاتي والنهم الاستعماري الدائم.
أمّا وأنّ لُعَب الأولاد تطوّرت، وصارت مواقع التواصل الاجتماعي إحداها، والأولاد كبروا، وصاروا نوّاباً ووزراء وزعماء، فمن حقّ اللبنانيين أن يخافوا، الآن وغداً، من أن تقع مذبحة، بعد «تويت» حارقة أو «بوست» خارق أو حتى «لايك» متفجّرة.
كتبت «الأخبار» أمس عن احتقان طائفي في الجبل، موجود ومحسوس ومعلوم لدى صانعيه، ولدى القوى السياسية الأخرى والأجهزة الأمنية. أصلاً، التحريض المتبادل بين التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي يجري أمام أعين الناس، وبِهِم.
الكتابة، لحسن الحظّ، سبّبت امتعاضاً عند «الجهات المختصة» في كِلا المعسكرين المتأهبين، فتفرّغ المعنيون مع طلوع الشمس للردّ على «الأقلام الرخيصة» و«وأد الفتنة» في مهدها... «تويتر»! سريعاً، تحوّل الشرر المستطير بين «العلوج» و«الأوباش» إلى تهدئة متبادلة، على شاكلة «تعايش» مشترك بين «العهد الجديد» و«العهد القديم». النائب السابق وليد جنبلاط، مثلاً، كشف سرّاً، أنه كان دائماً مع مبدأ الحوار، متوجّهاً إلى «الموتورين على وسائل التواصل الاجتماعي» بأن يهتموا بـ«شؤون المواطنين»! ويهملوا «ما يفعله صهر من هنا أو منظِّرٍ من هناك». لكنّه في ذات الوقت، طلب من رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري والوزير مروان حمادة، معالجة قضية نزار هاني ورجا العلي، اللذين نُقلا من عملهما الأول بقرار من وزير البيئة طارق الخطيب والآخر بقرار من مدير مؤسسة كهرباء لبنان كمال حايك، بسبب تجريد حمادة الموظفة هيلدا خوري من إحدى وظيفتيها. جنبلاط إذاً، تنصّل أمس من قرار حمادة، مؤكّداً المؤكّد، عن أن حمادة نفّذ قرار الحريري، الذي صمت حين قرّر رئيس التيار الوزير جبران باسيل الرّد على الاشتراكيين، بالتنكيل بموظّفيهم انتقاماً لخوري.
بعد ساعات من تغريدة جنبلاط، استفاق النائب زياد أسود، فاكتشف سرّاً: ما كتبته «الأخبار» دليل على «تهديد المسيحيين». ورَجَمَ النائبُ «الشيطانَ» بدوره، قائلاً إن «بعض الإعلام المكتوب يروّج لحربٍ في الجبل». هل كان أسود غافلاً عن الغلّ الذي تراكمه تغريداته وتغريدات غيره من الطائفيين المحرضين، ثم هزّته الكتابة فانتفض؟ أم أنه مثل جنبلاط، تذَكَّر أنه من دعاة الحوار «دائماً»؟
تستحق «الأخبار» إذاً شكراً لا اتهامات. فالسّلاح الذي يوزّع في الجبل لا توزّعه الصحافة المكتوبة. والكلام الذي يُنقل عن لسان جنبلاط بحقّ الرئيس ميشال عون وكلام عون بحقّ جنبلاط لا تكتبه الصحافة أصلاً. محاضرات العفاف يا سادة، لا تنفع.
بعد ظهر أمس، أصدر نائب رئيس التيار الوطني الحر للشؤون الإدارية رومل صادر، بياناً أكّد فيه أنه «نظراً إلى السجالات والحملات التي اتخذت منحىً طائفياً بغيضاً هو بعيد كل البعد عن لغة التيار... يطلب من جميع النواب والمسؤولين والقياديين والمناصرين التوقف عن السجالات واعتماد التهدئة الإعلامية مع الحزب التقدمي الاشتراكي...». جميل. لكن مهلاً، ما رأي أسود؟ هل يروّج صادر لحرب في الجبل، لأنه وَصَّف حقيقة ما يحصل؟ أم أن النائب الجزّيني يمكن أن يستقوي على «الإعلام المكتوب» وحده، ويستنبط نياته؟ لا يا أسود، إنّما النّيات بالأفعال.
ومثل صادر، دعت أمانة السر العامة في الاشتراكي، جميع القيادات والمسؤولين والكوادر والمناصرين والأصدقاء... إلى «الامتناع عن السجالات مع التيار الوطني الحر... بما يساهم في تبريد الأجواء والمناخات ويصبّ في خانة حماية السلم الأهلي...». السلم الأهلي مهدّد؟ أوف! أمس، بسبب مقال؟ وقبل أمس هل كان في مأمن؟ ماذا عن الأسبوع الماضي؟
حسناً، يبقى وزير البيئة. الخطيب، مستعد كما صرّح لقناة «الجديد»، للعودة عن قراره بشأن نزار هاني إذا عاد حمادة عن قراره بشأن هيلدا خوري! أها. عماها الخطيب. ثبّت على التيار الوطني الحر ما حاول أن ينفيه، بأن قرار نقل هاني انتقامي، وأن الوزير، إيّاه، يتعامل مع الوزارة كشركة ورثها عن أبيه، وأن الموظّفين فيها لا يعملون عند دولة، بل عند صاحب مزرعة خاصّة اعتباطي وكيدي، لكنّه يساوم!
مجريات أمس ليست حدثاً عابراً. هي صراحة وقحة عن كيف تكون الفتنة بقرار والتهدئة بقرار. هي مجاهرةٌ بزهد دم الناس أمام مصالح الذين يسرقون الطوائف وما بقي من الدولة باسم مصلحة الطائفة. هي إعلان خوف، عن الكلفة التي سيدفعها اللبنانيون هذه الجولة، لكي يستقر «النظام اللبناني الجديد»، استعداداً للجولة التالية!