قمة هلسنكي هي القمة الأولى التي تجمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل خاص ومباشر وليس على هامش منتدى أو لقاء دولي آخر، هذه القمة الفريدة والأولى من نوعها حملت في طياتها العديد من الرسائل والمعاني السياسية والاستراتيجية التي لا يستطيع أي باحث أو مراقب للعلاقات الدولية إلا أن يتوقف عندها ويعمل على تحليلها لفهمها واستشراف ارتداداتها ونتائجها.
ابتداءً، هذه القمة لم تأتِ من فراغ وهي تتصل اتصالاً مباشراً بما تشهده الساحة الدولية من أزمات وملفات ينخرط فيها الجانبان، وفي مسار الوصول إلى قمة هلسنكي هناك محطتان أساسيتان وبعض المتغيرات التي لا بد من الوقوف عندها من أجل إدراك أبعاد الخطوات الأميركية الروسية ورؤية الصورة المكتملة لما يحصل.
المحطة الأولى التي سنتوقف عندها في مسار الوصول إلى قمة هلسنكي هي محطة إصدار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوثيقة استراتيجية الأمن القومي في شهر كانون الأول من العام 2017، والتي حدّدت التحدّيات الأساسية التي تواجهها السياسة الأميركية ومنها:
• القوى الرجعية: الصين وروسيا.
• الدول المارقة: إيران وكوريا الشمالية.
ثم توسعت الوثيقة في توصيف الخطر الروسي المزعوم فورد فيها: تهدف روسيا إلى إضعاف نفوذ الولايات المتحدة في العالم وإبعادنا -أي الولايات المتحدة- عن حلفائنا وشركائنا، وتحاول أن تضعف الأمن والازدهار الأميركي، وتشكيل النظام الدولي بما يتناقض مع ما يسميه القيم والمصالح الأميركية، كما وتسعى إلى استعادة موقعها كقوى عظمى وتكريس نفوذها في جوارها القريب" تجدر الإشارة في هذا المقام أن وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركية وضعت روسيا والصين في خانة واحدة وفي موقع مشترك خلف مجمل ما سبق من تحديات وتهديدات للأمن القومي الأميركي.
في سياق موازٍ تطرقت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي لما أسمته الخطر أو التهديد الكوري الشمالي، وبشكل مبالغ فيه وعند توصيفها لخصمها جعلته عدواً للإنسانية، وهكذا فإن سعي كوريا الشمالية لهذه الأسلحة يشكل تهديداً عالمياً يتطلب رداً عالمياً، فهي تسعى لامتلاك القدرة على قتل الملايين من الأميركيين بالأسلحة النووية، فلأكثر من خمسة وعشرين عامًا سعت إلى امتلاك الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية في تحدٍ لكل الالتزامات التي تعهدت بها، واليوم هذه الصواريخ والأسلحة تهدد الولايات المتحدة وحلفاءها، ونحن نحشد العالم ضد هذا النظام المارق الذي يحكم كوريا الشمالية بديكتاتورية قاسية دون اعتبار للكرامة الإنسانية، وبمحاولة واضحة لتبرير خطواتها وضعت الولايات المتحدة خطواتها تحت عنوان الدفاع عن النفس فقط لا غير! ومنها نشر نظام دفاع صاروخي متعدد الطبقات يركز على كوريا الشمالية وإيران للدفاع عن أراضيها ضد الهجمات الصاروخية .
بالمحصلة بعد أن جعلت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي قارئها يتوهم أن كوريا الشمالية هي من أخطر ما يهدد السلم والأمن الدوليين، نصل إلى المحطة الثانية في مسار الوصول إلى قمة هلسنكي والتي شكّلت محطة تاريخية ومشهد كان أقرب للخيال بفعل البروباغندا الأميركية المتدفقة، عنيت به قمة سنغافورة التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ اون بتاريخ الثاني عشر من حزيران من العام 2018.
لن اغوص بعشرات المفردات غير المألوفة بالتخاطب السياسي التي كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يصف بها الرئيس الكوري الشمالي، ويقول عنه "المجنون" تارة و"القصير والسمين" تارة أخرى وغيرها من المصطلحات التي كانت وقود التصعيد بين الطرفين، لكن سأقف عند التحول الواضح في ثوابت الولايات المتحدة الأميركية تجاه القضية الكورية الشمالية، فالولايات المتحدة كانت تصر على أن القضية الكوريّة ليست شأننا ثنائيا بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية إنما هي قضية دولية، ولقد أوضحت وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس في تصريح لها: أن الولايات المتحدة خاضت تجربة المفاوضات المباشرة مع كوريا الشمالية في التسعينات وتحديدا في العام 1994، ونجم عن هذه المفاوضات اتفاق قامت كوريا الشمالية لاحقا بخرقه، ولقد تعلمنا الدرس من هذه التجربة، فالمفاوضات الثنائية سمحت لكوريا الشمالية بالمناورة، ووضع طرفا التفاوض بوجه بعضهما البعض والهروب من الإجابة الواضحة عن موعد تخليها عن أسلحتها النووية ، وفي سياق متصل فإن تصريح مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب "هيربرت ماكماستر" حول القضية الكورية الشمالية في أيلول من العام 2017 كان واضحا جدا حين قال: هذه القضية –قضية الأسلحة النووية لكوريا الشمالية- ليست قضية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية إنما هي قضية بين العالم وكوريا الشمالية . وبتعارض صارخ مع التجربة التاريخية التي أشارت اليها وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس، وبما يشبه التحدي والرفض الصريح لرؤية مستشار الأمن القومي هيربرت ماكماستر، وجدنا الرئيس الأميركي دونالد ترامب في المشهدية التاريخية إلى جانب كيم جونغ اون في قمة سنغافورة، وفي ظل هذا المشهد يتبادر إلى الذهن سريعا السؤال ما هو الدافع خلف خطوة الرئيس ترامب هذه؟.
قد يقول البعض إن الدافع خلف خطوة ترامب هو انتزاع تفاهم ووثيقة مشتركة تتضمن تأكيد الرئيس كيم جونغ اون على التزامه الراسخ الذي لا يتزعزع بإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، واستعادة ما أمكن من مفقودين ومن رفات الجنود الاميركيين الذين قضوا فوق الأراضي الكورية الشمالية، والتفاهم على بناء علاقة جديدة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة .
لا اعتقد أن انتزاع التفاهم والوثيقة هو الدافع، لاسيما وأن التفاهم الذي سبق وتوصلت اليه الولايات المتحدة وكوريا الشمالية في العام 1994 والذي تحدثت عن فشله كونداليزا رايس حمل في طياته ما نصه: "سيعمل الجانبان معا من أجل السلام والأمن في شبه الجزيرة الكورية، وأن تكون شبه الجزيرة خالية من الأسلحة النووية." وعلى صعيد العلاقات بين الجانبين ورد بالنص: "سوف يتحرك الجانبان نحو التطبيع الكامل للعلاقات السياسية والاقتصادية" وبالتالي فإن الوثيقة والتفاهم المشترك الذي وصل اليه الرئيس ترامب لم يقدم شيئاً جديداً، ولم يوفر أيّ ضمانات إضافية تجعل التقيد ببنود التفاهم أو الاتفاق لها أرجحيّة على ما سبقها من تفاهمات، مما يعني أن الجلوس مع الرئيس كيم جونغ اون ومحاولة التفاهم مع كوريا الشماليّة خلفها اهداف أخرى تتضح في سياق أوسع من التفاهم الثنائي بين الولايات المتحدة وكوريا الشماليّة، وهو ما سيتضح في المقال المقبل المعنون قمة هلسنكي منعطف استراتيجي؟ أم خطوة تكتيكية مرحلية؟.
1 - National Security Strategy of the United States of America, DECEMBER 2017,pp 12-35. https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2017/12/NSS-Final-12-18-2017-0905.pdf (19-12-2017)
2 - Op,cit, National Security Strategy of the United States of America, DECEMBER 2017, pp 3-56