من الإتفاق الذي وُقّع في "سوتشي" بشأن مُحافظة إدلب... إلى الغارة التي نفّذتها إسرائيل في اللاذقيّة، تطوّرات جديدة على مُستوى الساحة السُورية ستترك من دون شكّ الكثير من الإرتدادات والإنعكاسات في سوريا وعلى المُستوى الإقليمي أيضًا. والمُفارقة أنّ النظام السُوري هو في موقع المُتلقّي لا المُبادر، إن بالنسبة إلى الإتفاقات التي توقّع عنه، أو بالنسبة إلى الضربات التي تطال مواقعه والتي تستهدف القوى التي تدعمه، وكأنّ سوريا تحوّلت إلى ساحة مُستباحة لحروب الآخرين ولرسائلهم المُتبادلة. فما هي المعلومات عمّا حصل في الساعات الماضية، وماذا عن الإرتدادات المُتوقّعة؟.
بالنسبة إلى لقاء القمّة الذي عُقد في "سوتشي" بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، فقد أثمر إقرارًا لاتفاق هو أشبه بمذكّرة تفاهم جنّب مُحافظة إدلب معركة دمويّة ضاريّة-أقلّه في المرحلة الراهنة. فقد توافق الجانبان الروسي والتركي، على "آلية مُشتركة" تخصّ مُحافظة إدلب والمناطق القريبة المُحيطة بها، تقضي خُصوصًا بإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعرض يتراوح ما بين 15 و20 كيلومترًا، مع تسيير دوريات روسيّة-تركية مُشتركة في المنطقة العازلة. كما سيتمّ فتح الطريقين السريعين اللذين يربطان بين حلب وكل من حماه واللاذقيّة، وتأمين عودة بعض اللاجئين إلى بلداتهم في المنطقة المعنيّة بالإتفاق الذي يُشدّد أيضًا على إنسحاب الجماعات المُعارضة المُصنّفة إرهابيّة، وفي طليعتها "هيئة تحرير الشام"، من إدلب.
ويُمكن القول إنّ تركيا نجحت في دفع روسيا إلى وقف القرار الإيراني–السُوري الذي كان يميل إلى إسقاط حلب عسكريًا، مهما كلّف الأمر من خسائر بشريّة وماديّة، وكلّ ما أعلن من مواقف من دمشق وطهران عن ترحيب بالإتفاق أو عن مُتابعة حثيثة لتفاصيله، لا يعدو كونه تصاريح إعلاميّة لحفظ ماء الوجه لا أكثر! فالجانب الروسي صار صاحب الكلمة الفصل من دون مُنازع على الساحة السوريّة، والجانب التركي يملك بدوره تأثيرًا لا بأس به على الفصائل المُعارضة المُسلّحة المُتمركزة في مُحافظة إدلب. وإذا كانت أنقره دفعت نحو هذا الإتفاق حتى لا تخسر آخر أوراقها الميدانيّة في سوريا، فإنّ موسكو وافقت على هذا الإتفاق، كما سبق لها أن فعلت في شرق حلب قبل عامين، أي لتُبقي خياراتها مفتوحة مُستقبلاً. وبالتالي إنّ إحتمال سُقوط "المنطقة العازلة" وعودة الإشتباكات، يُمكن أن يحصل في أي وقت، في تكرار لسيناريو "شرقي حلب" في العام 2016. لكن على الأقلّ، كسب اللاعبون على الساحة السُورية فرصة إضافيّة للتفاوض بشأن الوضع النهائي للأراضي السُوريّة، وبشأن تفاصيل الحلّ السياسي. وليس بسرّ أنّ روسيا تعرف علم اليقين أنّ الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة الأميركيّة نتيجة دعم هذه الأخيرة المُستمرّ لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تتكوّن بأغلبيّتها من وحدات كرديّة، مُستمرّ ويُمكن إستغلاله مُستقبلاً للحُصول على تنازلات من الجانب التركي من دون إراقة أي دماء أو الدُخول في مواجهات عسكريّة واسعة في إدلب التي يزيد حجمها على 6000 كيلومتر مربّع، في ظلّ كثافة سُكّانية عالية جدًا.
من جهة ثانية، حجب حادث إسقاط صاروخ أرض-جوّ من منظومة "أس 200" الروسيّة والتي يملكها الجيش السُوري، الطائرة الروسية "إيل 20" عن طريق الخطأ، ما أسفر عن سُقوط 15 قتيلاً من الجيش الروسي، الضوء عن الغارات الإسرائيليّة المُتتالية التي تستهدف مواقع عسكريّة ومخازن أسلحة على إمتداد الأراضي السُوريّة. وبعيدًا عن الرواية الروسيّة التي حمّلت إسرائيل مسؤوليّة ما حدث(1) والرواية الإسرائيليّة التي حمّلت كلاً من سوريا ومن خلفها إيران و"حزب الله" هذه المسؤوليّة(2)، لا شكّ أنّ إستهداف الطيران الإسرائيلي مؤسّسة الصناعات التقنيّة في مدينة اللاذقيّة، في عمق منطقة عمليّات الجيش الروسي في سوريا، يُشكّل تطوّرًا نوعيًا في الحرب الإسرائيليّة–الإيرانيّة المفتوحة على الأراضي السورية. واللافت أنّ وتيرة هذه الضربات والغارات الإسرائيليّة آخذةً بالتزايد بشكل سريع، حيث أنّ إسرائيل كانت قد قصفت أهدافًا في مطار دمشق الدولي مساء السبت الماضي، وهي كانت قد أغارت أيضًا على مواقع عسكريّة في مُحافظتي حماة وطرطوس في الرابع من أيلول الحالي. وبحسب الإحصاءات الإعلاميّة، فإنّ ما لا يقلّ عن مئتي هدف تعرّض للقصف الإسرائيلي منذ عام ونصف العام، وهذا رقم قياسي غير مَسبوق.
وتُحاول إسرائيل من خلال إعتمادها سياسة عسكريّة مُتشدّدة وجريئة في سوريا العاجزة عن الردّ على هذه الإعتداءات، رفع مُستوى ضُغوطها على الجانب الروسي، وذلك لحثّه على التدخّل لوقف الإنفلاش الإيراني في سوريا، مع ما يحمله هذا الإنفلاش المُترافق مع نقل أسلحة ومُقاتلين إلى سوريا، من مخاطر أمنيّة مُباشرة على إسرائيل. وتسعى "تل أبيب" لإفشال المُخطّط الإيراني القاضي بمُحاصرتها عبر أكثر من جبهة قتال في وقت واحد، لأنّ إتمام الطوق الأمني عليها من المنطقة الساحليّة في الجنوب اللبناني وُصولاً إلى هضبة الجولان السُوري المُحتلّ، سيجعل من أيّ مواجهة عسكريّة مُحتملة في المُستقبل، معركة صعبة على الجيش الإسرائيلي الذي سيكون عليه القتال على أكثر من جبهة خارجيّة وداخليّة في آن واحد، في ظلّ تطوّر لقُدرات خُصومه ولأساليبهم القتالية، مُقارنة بما كان الأمر عليه خلال حروب إسرائيل السابقة مع الدول العربيّة.
في الختام، يُمكن القول إنّ المرحلة الحالية هي الأخطر في الحرب السوريّة بكاملها، لأنّه بكل بساطة ستحمل أسس التسوية الميدانيّة ليس فقط بين النظام السُوري ومُعارضيه، إنّما أيضًا بين كل اللاعبين الذين كان لهم دور أمني أو سياسي أو مالي فيها. وبالتالي، إنّ التسوية النهائية لا يُمكن أن تحصل ما لم يتمّ التوافق مُسبقًا على وضع القوّات الإيرانيّة ومُقاتلي "حزب الله" وغيرهم من الوحدات غير النظاميّة الداعمة لمحور المُقاومة في سوريا، وحتى ذلك الحين ستتواصل الغارات الإسرائيليّة مع كل ما تحمله من مخاطر إنفلات الوضع الأمني بشكل واسع وخطير في أي وقت.