لا حكومة في أيلول. بات الأمر أكثر من واضح، على الرغم من كل الرهانات على أنّ الحكومة ستبصر النور خلال هذا الشهر، وهو ما نُقِل سابقاً عن رئيس الجمهورية ميشال عون، حرصاً منه على الذهاب إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، مصحوباً بوفد وزاري أصيل، لا يصرّف الأعمال فحسب.
لم تتحقّق رغبة عون، لأنّ الأمور بقيت على حالها من المراوحة، منذ وضعه ملاحظات على الصيغة التي قدّمها له رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، تحت عنوان "العدالة" و"التوازن". المطلوب بالنسبة لرئيس الجمهورية بعض "التواضع" من جانب "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، فيما الأخيران يرفضان "التنازل" حتى إشعارٍ آخر.
وبين هذا وذاك، يقف الحريري حائراً. صحيحٌ أنّ مصلحته تقضي بتشكيل الحكومة اليوم قبل الغد، لكنّ الصحيح أيضاً والذي لا يخفى على أحد، هو أنّه لن يتخلى عن "القوات" و"الاشتراكي" لاعتباراتٍ تتقاطع فيها المصالح الداخلية والخارجيّة...
المعارضة غير مطروحة
على الرغم من بعض التسريبات التي قالت إن "القوات" و"الاشتراكي" يمكن أن ينتقلا إلى ضفة المعارضة إذا ما بقيت الأمور على حالها، يؤكد العارفون أنّ مثل هذا الخيار غير وارد على الإطلاق، لا بالنسبة إليهما ولا بالنسبة إلى رئيس الحكومة المكلف الذي يصرّ على وجودهما في الحكومة، وإلا تنتفي صفة الوفاق الوطني عنها.
وإذا كانت المفاوضات "متعثرة" في ظلّ صعوبة الوصول إلى "حل وسط" بين مطالبهما ومطالب "الوطني الحر"، فإنّ "القوات" و"الاشتراكي" يتصرّفان على أساس أنّ الحكومة لا يمكن أن تبصر النور من دونهما، حتى لو قرّر البعض "المغامرة" بالذهاب نحو حكومة "أكثرية"، لأنّ مثل هذه الحكومة التي تستثني مكوّنين أساسيَّيْن على الساحة اللبنانية لن تكون في صالح أحد، فضلاً عن أنّ العهد سيُتّهَم بتضييع الوقت قبل طرق الباب الأسهل.
ولعلّ ما يعزّز موقف "القوات" و"الاشتراكي" إدراكهما بأنّ أيّ رغبة باستثنائهما أو إقصائهما من الحكومة ستصطدم بـ"فيتو" قوي من داخل الحكومة، قوامه رئيسا المجلس النيابي نبيه بري والحكومة سعد الحريري، فضلاً عن نتائج الانتخابات النيابية التي يصرّ خصومهما على اعتبارها "معياراً" للتمثيل الحكومي، خصوصاً بعدما جرت في ظلّ القانون النسبي، وهي أفرزت "تفوّقاً" واضحاً لهما، كلٌ في ساحته المذهبيّة والحزبيّة، بما لا يجعل من الممكن استبدالهما بقوى أخرى.
أكثر من ذلك، هناك من يقول ان "الاشتراكي" و"القوات" يعتبران أنّ موقفهما هو "الأقوى"، ولذلك فهما لا يضعان "التنازل" نصب أعينهما، وإن كانت "القوات" تقول إنّها قدّمت الكثير من التنازلات والتسهيلات، وهما يعتقدان أنّ "المحشور" الذي يريد تأليف الحكومة لا بدّ أن يسعى في النهاية إلى "مراضاتهما" بشكلٍ أو بآخر، وإن كانت تجارب سابقة مع "التيار الوطني الحر" وفريق رئيس الجمهورية أثبتت أنّ مثل هذا الرهان قد لا ينجح.
لا للاستفراد
عموماً، وبمُعزَلٍ عن الموقف الحقيقيّ لكلّ من رئيسي حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع و"الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، وما إذا كانا قابلين أصلاً لفكرة الانتقال إلى المعارضة، أو أنّ هناك من يسعى إلى استدراجهما إليها بشكلٍ أو بآخر، ثمّة قناعة راسخة لدى الكثيرين بأنّ رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري لن يسمح بمثل هذا السيناريو، مهما كان الثمن.
وفي هذا السياق، يقول العارفون إنّ الحريري يرفض التخلي عن جنبلاط وجعجع، ليس كرمى لعيونهما بشكل أساسي، علماً أنّ علاقته بهما شهدت بعض الاهتزازات في الآونة الأخيرة، سواء مع جعجع بعيد استقالته الشهيرة والغامضة من المملكة العربية السعودية، أو مع جنبلاط في مرحلة الانتخابات النيابية وما رافقها من "سوء تفاهم". إلا أنّ العامل الخارجي، لا سيما لجهة الارتباط بالمرجعية الإقليمية، تحديداً السعودية، يجعل الحريري متمسّكاً بجنبلاط وجعجع، خصوصاً في ظلّ وجود رؤية تحتمل الكثير من الصواب وفقاً لبعض المعطيات، تتحدّث عن أنّ الرجلين باتا يتمتعان بمرتبة متقدّمة في المملكة على الحريري نفسه.
وعلى الرغم من أهمية العامل الإقليمي بالنسبة للحريري الذي لا يخفى على أحد أنّه يسعى في هذه المرحلة لإعادة ترتيب أوراقه في الخارج والإقليم، فإنّ اعتباراتٍ داخلية لا تقلّ شأناً تجعله أيضاً متمسّكاً بجعجع وجنبلاط، تتلخص في التوجّس من الآتي في الحكومة، خصوصاً في ظلّ الأسقف المرتفعة التي يواجَه بها. ولعلّ العلاقة مع سوريا تتصدّر هذه الهواجس، ولو أنّها غُيّبت عن نقاشات تأليف الحكومة بمبادرة من "حزب الله"، خصوصاً أنّ الحريري يشعر أنّ هناك من يريد "الاستفراد" به في الحكومة لفرض "أمر واقع" عليه لجهة إعادة إحياء العلاقات مع النظام السوري، وهو ما يرفضه شكلاً ومضموناً، وسبق أن أعلن أنّه لن يسير به حتى لو اقتضت المصلحة اللبنانية العليا ذلك.
وتمتدّ هذه المخاوف "الحريرية" على ملفاتٍ أخرى لا يعتقد أنّ تفاهمه مع "التيار الوطني الحر" كافٍ لتفادي تداعياتها، خصوصاً في ضوء اعتقاده أنّ "التيار" لا يزال يغلّب تحالفه مع "حزب الله" على أيّ تفاهمٍ آخر. وهو يعتبر ما حصل في قضية تسمية شارع في الضاحية الجنوبية باسم مصطفى بدر الدين وهو المتهم بالتورط في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، "استفزازاً" ليس في محله، و"بروفا" لما يمكن أن ينتظره مستقبلاً. وإذا كان صحيحاً أنّ التسمية ليست حديثة بل تعود إلى عامٍ مضى، فإنّه ينظر بعين الريبة إلى "الشحن الطائفي" الذي رافقها، وصولاً إلى حد ذهاب البعض إلى تشبيه رفض التسمية بقرارات الخامس من أيار التي أدّت إلى أحداث السابع من أيار الشهيرة، مع ما لذلك من تداعياتٍ يمكن أن تكون كارثيّة.
حقيقة مثبتة واحدة
باختصار، تبدو صورة الحكومة، على تعقيداتها، أكثر من واضحة. رئيس الحكومة المكلف مصرّ على إشراك "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" في الحكومة، انطلاقاً من كونها حكومة وفاق وطني. رئيس الجمهورية، وهو شريك الحريري في التأليف من خلال توقيعه الملزم على أيّ صيغة، لا يرفض ذلك، ولكنّه يضع شروطاً مستندة إلى ما يعتبرها معايير تضمن التمثيل العادل، "شروط" يرفضها الحزبان المعنيّان، ويقولان إنهما غير مستعدّين لتقديم أيّ تنازل.
ببساطة أكثر، لا يقود كلّ هذا "التشابك" و"التقاطع" إلا إلى حقيقةٍ مثبتة واحدة، الحكومة لن تبصر النور في المدى المنظور. يقول كثيرون إنّ السبب خارجيّ، باعتبار أنّ "المعرقلين"، من هذا الطرف أو ذاك، ينفذون إملاءات خارجية. لكنّ التجربة تؤكد أنّ الحلّ أيضاً سيكون خارجياً، إذ إنّ "كلمة السرّ" وحدها من شأنها أن تجعل "التنازل" المرفوض بشراسة اليوم أكثر من "ميسّر" غداً...