في المقال السابق المعنون محطات نحو هلسنكي ذكرنا ما ورد في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي الصادرة في شهر كانون الأول من العام 2017 لاعتبار كل من روسيا-الصين-كوريا الشمالية-وإيران كتحديات للأمن القومي الأميركي، كما وتطرقنا إلى قمة سنغافورة التي جمعت الرئيس ترامب والرئيس كيم جونغ اون والتحول التي أحدثته في موقف الولايات المتحدة من التعاطي مع القضية الكورية الشمالية، وتوقفنا عند أن الدافع الأميركي لعقد قمة سنغافورة لا يرتبط بدفع العلاقات الثنائية الأميركية الكورية الشمالية فقط وإنما هناك دوافع أميركية أخرى ستتضح في هذا المقال.
فلقد أعقب قمة سنغافورة سابقة الذكر قمة هلسنكي التي عقدت بتاريخ السادس عشر من تموز من العام 2018، وبعيدا عن التوقعات والتحليلات وأسلوب ما يسمى "المصادر العليمة" والروايات البوليسية التي تحاك على خلفية ما يسمى "تسريبات" حول ما جرى خلف الأبواب المغلقة، ومن باب التقييد بالعمل الموضوعي سأعتمد على ما صرح به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترامب في مؤتمرهما الصحافي المشترك الذي تناولا فيه ما تم بحثه والتفاهم عليه خلال قمة هلسنكي، وقد ورد في مؤتمرهما الصحفي ما يلي:
الرئيس بوتين قال "جرت المفاوضات مع رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، في جو صريح ويشبه أجواء جلسات رجال الأعمال، أعتقد أنه يمكننا وصف جولة المفاوضات بأنها ناجحة ومثمرة للغاية، فقد قمنا بتحليل دقيق للوضع القائم وكذلك حاضر ومستقبل العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، والقضايا الرئيسية على الساحة الدولية.
فيما يتعلق بحاضر ومستقبل العلاقات الروسية الأميركية قال الرئيس بوتين: من الواضح تمامًا للجميع أن العلاقة الثنائية تمر بمرحلة معقدة، والأجواء المتوترة ليس لها أي أساس صلب، والحرب الباردة هي شيءمن الماضي، وواقع السياسة الدولية تغير بشكل كبير، فاليوم روسيا والولايات المتحدة تواجهان مجموعة جديدة من التحديات تشمل الاختلال الخطير في آليات الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين، الأزمات الإقليمية، التهديد الإرهابي المتسلل والجريمة العابرة للحدود، المشاكل الاقتصادية المتنامية ككرة الثلج، وقال لا يمكننا مواجهة هذه التحديات إلا إذا وقفنا صفا واحدا وعملنا معا ونأمل أن نصل إلى هذا التفاهم مع شركائنا الأميركيين، والخطوة الأولى للوصول إلى هكذا تفاهم وتطوير العلاقات الثنائية بيننا هي من خلال العمل لاستعادة مستوى مقبول من الثقة المتبادلة، والعودة للتفاعل في جميع المصالح والقضايا المشتركة.
بالمقابل الرئيس الأميركي دونالد ترامب قال: أن اللقاء مع الرئيس بوتين كان فرصة لمناقشة مجموعة واسعة من القضايا الهامة والحساسة لكلا البلدين، ووصف الحوار مع الرئيس بوتين بأنه كان حواراً مباشراً ومنفتحاً ومثمراً جداً وسار بشكل سلس، وتابع قائلا أنا هنا اليوم لمواصلة الدبلوماسية الأميركية الجريئة ويتعين على القادة الأميركيين فهم أن الدبلوماسية والانخراط أفضل من الصراع والعداء، فالخلافات بين بلدينا معروفة جيداً وقد ناقشتها مع الرئيس بوتين مطولاً اليوم،ولكن إذا كنا سنعمل لحل العديد من المشاكل التي تواجه عالمنا، فعندئذ سيكون علينا توفير طرق للتعاون فيما بيننا لتحقيق ما نعتبره المصالح المشتركة، وإلا فأنا أعتقد من الناحية السياسية أنه من السهل رفض التلاقي ورفض الانخراط، لكن هذا لن يحقق أي شيء.
بصفتي رئيسًا لا يمكنني اتخاذ قرارات بشأن السياسة الخارجية في جهد عقيم لاسترضاء النقاد من الحزبيين أو وسائل الإعلام أو الديموقراطيين الذين لا يريدون أن يفعلواشيئًا سوى المعارضة والعرقلة. الحوار البناء بين الولايات المتحدة وروسيا يتيح الفرصة لفتح مسارات جديدة نحو السلام والاستقرار في عالمنا.وأنا أفضل أن أخوض المخاطرة السياسية في السعي إلى السلام بدلاً من المخاطرة بالسلام في السعي إلى السياسة .
نخلص مما تقدم وبناء على تصريحي الرئيسين بوتين وترامب لنضع الملاحظات التالية فيما يتعلق بعنوان العلاقات الروسية الأميركية:
أولا: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يسقط على جلسة المفاوضات الشعارات "المثالية" كما تسمى بل كان واضحا بتوصيفها بأنها جلسة تشبه جلسات رجال الأعمال، وهي بالتالي جلسة لتبادل الخدمات والتقديمات وكل طرف يسعى لتحقيق الصفقة التي تناسبه، فرجال الاعمال ليسوا جمعيات خيرية وليسوا من اتباع المدرسة المسماة المثالية غالبا.
ثانيا: الرئيس بوتين وصف العلاقات الروسية الأميركية بالمعقدة ولم يقف عند هذا التعقيد بل حدد الخطوة الأولى لمعالجة واقع هذه العلاقة وهي استعادة الثقة المتبادلة. لكن مما يعترض استعادة هذه الثقة هو توصيف إدارة الرئيس ترامب لروسيا بالتحدي في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي من جهة، وبقاء الإدارة الأميركية على سياسة وضع العقوبات الاقتصادية على روسيا من جهة أخرى.
ثالثا: الرئيس بوتين عزا التلاقي بين الطرفين الى المتغيرات القائمة على الساحة الدولية والتحديات الجديدة التي لا يسع روسيا وحدها أو الولايات المتحدة وحدها مواجهتها، وهو بالتالي يقول إن التلاقي ليس حاجة روسية إنما هو جزء من دورها الذي تمارسه بحكم موقعها كقوة كبرى لمواجهة التحديات الجديدة التي طفت على سطح السياسة الدولية.
رابعا: الرئيس ترامب استهل مؤتمره الصحفي من على منبر قمة هلسنكي لوعظ القادة الأميركيين حول الدبلوماسية الجريئة، وتصوير نفسه بأنه هو الرئيس الطليعي المتميز الذي لا يخشى الإقدام واقتحام أكثر الملفات تعقيدا من أجل أميركا والشعب الأميركي.
خامسا: الرئيس ترامب وبخطوة مستغربة جدا وغير مقبولة على ساحات ومنابر التفاوض كشف الانقسام الداخلي الأميركي بل وتهجم على خصومه في السياسة الداخلية الأميركية.
سادسا: اعتبر الرئيس الأميركي أن لقاءه مع نظيره الروسي في قمة هلسنكي هو مخاطرة سياسية. وبمجرد النظر الى البندين الخامس والسادس يتضح أحد الأسباب الحقيقية خلف اندفاعة الرئيس ترامب نحو ملفات السياسة الخارجية ألا وهو مأزقه في السياسة الداخلية، أما لماذا اختار العلاقة مع روسيا من ضمن ملفات السياسة الخارجية فسيتضح لاحقا.
عقب التطرق للعلاقات المباشرة بين البلدين تناول الجانبان الأزمات الإقليمية الأبرز على الساحة الدولية، والتي تسهم إلى حد بعيد قراءة موقف وموقع كلا البلدين من كل منها في إدراك المشهد الجديد الناجم عن عملية إعادة رسم خارطة النفوذ على الساحة الدولية، لذا فإن عرض كل ملف على حدة وتعقب سجل النقاط الاستراتيجية المحرزة لكلا الطرفين في كل ملف يسمح لنا بالحكم على نتائج قمة هلسنكي وتلمس بعض دوافعها أيضا:
الأزمة الإقليمية الأولى: الأزمة الأوكرانية.
لا زالت الأزمة الأوكرانية تتوالى فصولا، وهي بحسب الرواية الأميركية اندلعت إثر انتفاضة شعبية في أواخر العام 2013 احتجاجا على قرار الحكومة الأوكرانية رفض تمتين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وفي شباط من العام 2014 شهدت تطورا هاما تمثل بسقوط الحكومة الأوكرانية برئاسة "فيكتور يانكوفيتش"، والولايات المتحدة كانت تصف حكومته بأنها الحكومة المفضلة للكرملين، وتعزو سبب سقوط الحكومة إلى ردة الفعل الشعبية على القمع العنيف للمحتجين في ساحات أوكرانيا.
عقب سقوط حكومة يانكوفيتش وصلت حكومة موالية للغرب وتتوق لتحجيم النفوذ الروسي ومصممة على التقرب من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وردت روسيا على تغيير الحكومة في كييف من خلال الاستيلاء على منطقة القرم في أوكرانيا وضمها في آذار 2014 .
في المقابل الرواية الروسية تنطلق من أن إسقاط حكومة فيكتور يانكوفيتش حصل بعملية إنقلابية مدعومة من الغرب (والمقصود بالغرب هنا) الولايات المتحدة تحديدا، وبناء عليه فان روسيا تريد أن تحمي المواطنين الروس الذين يعيشون في أوكرانيا من خطر الحكومة الفاشية الموالية للغرب ، وقد استشعرت روسيا هذا الخطر من ممارسات السلطات الأوكرانية حيث صوت البرلمان الاوكراني على الغاء الصفة الرسمية للغة الروسية ، والتي اعتبرتها روسيا خطوة جسيمة تتسم بالتحيز ضد الاثنية الروسية والمتكلمين باللغة الروسية، وتضعهم تحت التهديد بسبب الاضطرابات التي اندلعت في شرق اوكرانيا.
خلاصة هذه الأزمة، أن روسيا ضمت القرم وقال الرئيس بوتين ان إجراءاتها للضم كانت بحسب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ، وضم القرم تم بناء على أساس استفتاء شعبي وبذلك أصبح القرم جزءا من روسيا الاتحادية ، دون أن ننسى أن أوكرانيا تقع ضمن ما يعرف بالجوار القريب في الاستراتيجية الروسية، وهو المدى الاستراتيجي الروسي البالغ الحساسية الّذي لا تقبل فيه روسيا أي محاولة لتطويقها أو إضعاف نفوذها وهذا ما نصت عليه جميع استراتيجيات الأمن القومي الروسي منذ أكثر من عقد من الزمن.
وبالمقاطعة بين هذه المعطيات وبين ما ورد في المؤتمر الصحفي المشترك للرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترامب، نجد أن من تناول الموضوع وعلق عليه بشكل أساسي هو الرئيس الروسي حيث قال: ناقشنا الأزمة الأوكرانية الداخلية، وأولينا اهتمامًا خاصًا بالتنفيذ الحقيقي لاتفاقيات مينسك من قبل كييف. في الوقت نفسه، يمكن للولايات المتحدة أن تكون أكثر حسما في دفع القيادة الأوكرانية وتشجيعها على العمل بنشاط في هذا الشأن ، بناء على ما تقدم يمكن وضع الملاحظات التالية:
أولا: الرئيس بوتين هو من تطرق للقضية الأوكرانية مقابل صمت الرئيس الأميركي.
ثانيا: الرئيس بوتين اعتبر ان الأزمة الأوكرانية هي أزمة داخلية وهذا التوصيف هو تكذيب غير مباشر للرواية الأميركية-الأوكرانية التي تتهم روسيا بافتعال الأزمة والتدخل في فصولها واحداثها، واحتفظ الرئيس الأميركي بصمته.
ثالثا: الرئيس بوتين حمل أوكرانيا مسؤولية خرق اتفاق مينسك بخلاف الرواية الأوكرانية الأميركية التي تحمل روسيا مسؤولية خرق الاتفاقية والقيام بمهاجمة القوات الأوكرانية عبر الفصائل المعارضة المدعومة من روسيا بحسب الزعم الأميركي-الاوكراني، وأيضا حافظ الرئيس ترامب على تمسكه بالصمت.
رابعا: توسع الرئيس بوتين في رمي الكرة في ملعب أوكرانيا والولايات المتحدة وطلب من الأخيرة حث كييف على تطبيق اتفاقيات مينسك والتقييد بمندرجاتها.
بالمحصّلة يتضح أن الولايات المتحدة غضّت الطرف عن الملف الاوكراني خلال هذه المفاوضات، سعيا لتقاضي الثمن في ملفات أخرى، مما يعني أن روسيا حققت نقطة استراتيجية تتمثل بتكريس نفوذها في مداها الاستراتيجي، وأثبتت ضعف القدرة الأميركية خصوصا والغربية عموما على كسر هذا النفوذ في هذه الرقعة الجغرافية الواقعة في جوارها القريب، ولقد أثبتت الأزمة الأوكرانية ما سبق وأثبتته الأزمة الجورجيّة قبل ذلك بأن روسيا لا تقبل بإضعاف نفوذها وتطويقها في جوارها القريب، وكل ما تلى قمة هلسنكي من تصريحات ومواقف أميركية حيال الأزمة الأوكرانية ما هو إلا محاولة مكشوفة للتراجع وتعديل الصورة التي ظهر فيها الموقف الأميركي والرئيس ترامب...
الأزمة الإقليمية الثانية التي تناولتها قمة هلسنكي هي الأزمة السورية، وهي واحدة من أبرز الأزمات على الساحة الدولية في التاريخ المعاصر، وهي الأزمة الشرق الأوسطية التي شهدت اجماعا دوليا للتدخل بها إذا صح التعبير، وكعادتها كانت الولايات المتحدة السباقة في اعتماد السياسة التدخلية في هذه الأزمة، لكن لم تبقَ الولايات المتحدة وحدها في هذا المضمار فلقد تبعتها روسيا للتدخل في الأزمة السورية، ولقد أثبتت صفحات الأزمة السورية أن الدور الروسي كان أكثر فعالية في تغيير المشهد الميداني وتجهيز المضمار السياسي لمختلف السيناريوهات، وهو ما سمح لروسيا بالانتقال الى موقع المتمكن من الملف السوري، وبالتناغم مع هذه الصورة جاء تصريح الرئيس الروسي في قمة هلسنكي عن الازمة السورية الذي تطرق للشق الأكثر حساسية بالنسبة للولايات المتحدة الا وهو أمن الكيان الصهيوني، وبهذا الخصوص قال الرئيس بوتين: الجنوب السوري سيكون خاضعا كليا لمعاهدة 1974 التي تنص على الفصل بين القوات (أي بين القوات السورية والصهيونية)، وهو ما سيجلب السلام إلى مرتفعات الجولان، وجلب المزيد من العلاقات السلمية بين سوريا والكيان الصهيوني، وتوفير أمن الكيان الصهيوني، ولقد أولى الرئيس ترامب اهتماما خاصا بهذه القضية خلال مفاوضات اليوم.
بدوره أضاف الرئيس ترامب أن الأزمة السورية هي أزمة معقدة، وقال إن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران باستغلال نتائج قضائنا على ما يسمى داعش، واستئصاله من المنطقة.
نضع على جملة ما تقدم بخصوص الازمة السورية الملاحظات التالية:
أولا: من الصعب جدا أن تمر عبارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حينما تحدث عن الأزمة السورية دون أن تقرع رزمة كاملة من نواقيص الخطر عند أي متابع أو باحث أو حتى عند أي مواطن يعيش في الشرق الأوسط، فعن أي معاهدة وعن أي فصل بين القوات يتحدث والكيان الصهيوني يصول ويجول وينفذ الغارات ضد سوريا؟!.
ثانيا: أي سلام سيجلب لمرتفعات الجولان المحتل! هل هو السلام المزعوم بإبقاء الحال على ما هو عليه وبالتالي الإقرار للمحتل باحتلاله دون تعكير صفو مستوطناته ومواقعه العسكرية في الجولان وجوارها؟!.
ثالثا: لماذا هذا الاهتمام الملفت وانتقاء الجولان للحديث عن السلام فيها؟! فهل عمليات قصف مواقع العدو في الجولان ابان الاعتداء الصهيوني على سوريا هو الحافز خلف هذا الاختيار؟!.
رابعا: تحدث الرئيس الروسي عن جلب المزيد من العلاقات السلمية بين سوريا والكيان الصهيوني، وهو أمر مستغرب جدا!! فما تشهده سوريا اليوم ليس مفاوضات سلام بينها وبين الكيان الصهيوني، إنما هي تعمل بالتعاون مع أصدقائها وحلفائها للخروج من الأزمة التي عصفت بها، واستحضرت الى أراضيها جميع أنواع الجماعات المسلحة المعروفة في العصر الحديث، إلى جانب حشد من أجهزة المخابرات التي عملت على تدمير بناها التحتية الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية...
خامسا: خلص الرئيس الروسي إلى توفير أمن الكيان الصهيوني، وهنا نسأل أين موقع توفير أمن سوريا في هذه المعادلة؟! أليست سوريا هي التي تتعرض للاعتداءات من قبل الكيان الصهيوني وليس العكس؟!.
سادسا: حرص الرئيس الروسي على الإشارة إلى أن هذه النقاط سابقة الذكر كان يوليها الرئيس ترامب اهتماما خاصا خلال المفاوضات، فهل مجاراته في هذا الملف بهذا الشكل المريب والمقلق هو لقاء مقايضة حصلت في الملف الاوكراني مثلا؟.
سابعا: إشارة الرئيس ترامب لعدم السماح لإيران لاستغلال نتائج القضاء على ما يسمى داعش، كان تصريحا احاديا حيث قال: إن الولايات المتحدة لن تسمح ولم يتحدث عن اتفاق ولم يتكلم بصيغة مشتركة مع الجانب الروسي، وهو ما يؤشر إلى تمايز بالتعاطي بين روسيا والولايات المتحدة مع الجانب الإيراني في سوريا.
ثامنا: بالرغم من التماهي الروسي مع الرغبة الأميركية فيما يتعلق بالكيان الصهيوني وأمنه إلا أن تناول الرئيس الروسي هذا الشق البالغ الحساسية والاستراتيجية في الشرق الأوسط، إنما يحمل في طياته اعتراف أميركي بالدور الروسي الطليعي في الأزمة السورية، وكذا اعتراف ضمني بدخول النفوذ الروسي الى ساحة الشرق الأوسط لمشاركة ومزاحمة النفوذ الأميركي...
يبقى على جدول اعمال قمة هلسنكي أزمتان تتشابهان من حيث العنوان النووي الأزمة الكورية والأزمة الإيرانية، وبعد أن وضِعت الأزمة الكورية على سكة الحل نظريا من خلال قمة سنغافورة التي شكلت توطئة للوصول إلى قمة هلسنكي، فإن الأزمة الإيرانية لا تزال تراوح في خانة التجاذب بين الولايات المتحدة وإيران، وقد تناولهما الرئيس بوتين على الشكل التالي: يسعدنا أن تتجه الأزمة الكورية نحو الحل، إلى حد كبير بفعل المبادرة الشخصية للرئيس ترامب الذي اختار الحوار بدلا من المواجهة.
أما بخصوص الأزمة الإيرانية فقال: ذكرنا بقلقنا بشأن انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل المشتركة مع إيران، ونظراءنا الأميركيون يدركون موقفنا، ودعوني أذكركم أنه بفضل الاتفاق النووي الإيراني أصبحت إيران الدولة الأكثر انضباطية في العالم، وهي ارتضت أن تكون تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأنها تضمن بفعالية الطبيعة السلمية الخالصة للبرنامج النووي الإيراني وتعزز نظام عدم الانتشار النووي.
في المقابل الرئيس ترامب لم يعلّق على الأزمة الإيرانية ولم يدافع بالتالي عن الخطوة الأميركية الأحادية، المتمثلة بالانسحاب من إتفاق العمل المشترك مع إيران حول ملفها النووي، ومع الوصول إلى خاتمة عقد الأزمات التي تناولتها قمة هلسنكي نشير الى بعض الملاحظات المرتبطة بالملف الإيراني لنصل بعدها الى تحديد مجموعة من الخلاصات والتحليلات المرتبطة بفهم أسباب ونتائج قمة هلسنكي، ففيما يتعلق بالأزمة الإيرانية برزت ملاحظتين أساسيتين وهما:
أولا: تعليق الرئيس بوتين على الأزمة الإيرانية بالشكل الذي جاء فيه، انما يتضمن إدانة للموقف الأميركي، فبحسب الرئيس بوتين هذا الاتفاق كان له دور فعال في لجم البرنامج النووي الإيراني ووضعه تحت إشراف وكالة الطاقة الذرية، وبالتالي ضمان سلمية البرنامج النووي الإيراني.
ثانيا: جاء تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر بتاريخ 30-08-2018 ليؤكد تقيد ايران وتطبيقها بنود وشروط اتفاق العمل المشترك معها أو ما يعرف بالتفاهم النووي الإيراني ، وهذا ما يبرهن ما ذهب إليه الرئيس بوتين بالتعليق على الأزمة الإيرانية. وبالتالي فإن الانسحاب الأميركي من التفاهم مع إيران لا يرتبط بإخلال إيران في بنود هذا التفاهم، انما يرتبط بمواجهة سياسية وبمحاولة أميركية للضغط على إيران وحلفائها في الشرق الأوسط من أجل إعادة رسم النفوذ الإيراني في المنطقة بعد توسع هذا النفوذ باتجاه العديد من دول المنطقة لاسيما اليمن-العراق-سوريا-لبنان.
ختاما إن الإدارة الأميركية وعلى رأسها الرئيس دونالد ترامب حينما أقدمت على التحضير لعقد القمة الروسية الأميركية في هلسنكي، من البديهي أن تكون عملت على دراسة الملفات المطروحة ووضعت في الميزان الاستراتيجي الأكلاف والاثمان المرجوة من كل ملف، فإذا اعتمدنا على الوقائع الموضوعية نجد ما يلي:
أولا: نتيجة لعقد قمة سنغافورة مع الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ اون تخلت الولايات المتحدة عن ثوابتها وتجاهلت تجربتها التاريخية والدروس المستقاة منها في العلاقة مع كوريا الشمالية.
لكن توجه الإدارة الأميركية نحو عقد قمة سنغافورة واستعداداها لدفع ثمن التخلي عن ثوابتها وتجاهل تجربتها التاريخية والدروس المستقاة منها، لم يكن بدافع حب السلام والسعي لإنهاء النزاع بالوسائل السلمية واعتماد نهج الحوار بدل التهديد باستخدام العقوبات الاقتصادية او الوسائل العسكرية، إنما هي كلفة مقبولة جدا في الحسابات الأميركية مقابل العمل على انتزاع مفتاح حل الأزمة الكورية الشمالية من اليد الصينيّة، لا سيما وأن الملف الكوري الشمالي هو جزء هام جدا من المواجهة الاستراتيجيّة الواقعة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بين الصين والولايات المتحدة الأميركية.
ثانيا: إن موافقة الإدارة الأميركية على الذهاب نحو عقد قمة هلسنكي ومحاولة التقرب من روسيا هي خطوة تشكل تناقد صارخ مع ما صدر عن الإدارة الأميركية من توصيف لروسيا والصين كتحديان إن لم نقل تهديدان استراتيجيان كما ورد في وثيقة استراتيجية الامن القومي الأميركي.
لكن في الحسابات الأميركية هذا التناقد سابق الذكر يعتبر كلفة بسيطة ومقبولة إذا ما تمت مقارنته مع الكلفة الاستراتيجية للتقارب الروسي الصيني الذي لطالما عملت الولايات المتحدة على تجنب سيناريو من هذا النوع، وبالتالي فإن خطوة الإدارة الأميركية والرئيس الأميركي دونالد ترامب تأتي انسجاما مع ما قرره مستشار الامن القومي السابق ووزير الخارجية الأميركي الأبرز هنري كيسنجر حينما وضع معادلة للعلاقات الأميركية مع روسيا والصين فقال في كتابه الدبلوماسية: سيكون موقع أميركا التفاوضي الأقوى عندما تكون أميركا أقرب إلى كلا العملاقين الشيوعيين من أي منهما إلى الآخر ، وبناء عليه فالخطوة الأميركية اتجاه روسيا تصب في خانة تحييد الدور الروسي وتطوير موقع العلاقات الروسية الأميركية تمهيدا وسعيا لتوفير الظروف الملائمة للمواجهة التي استعرت مباشرة عقب قمة هلسنكي وهي ما عرف بالحرب الاقتصادية او التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وبالنظر الى الصورة الأكبر نجد ان ظروف المواجهة دفعت الولايات المتحدة ببراغماتيتها المعروفة إلى الموازنة بين التحديات الأربعة المذكورة في استراتيجيتها للأمن القومي فعلى المستوى الدولي تقربت من روسيا وواجهت الصين، في حين على المستوى الإقليمي جمدت الملف الكوري الشمالي وخفضت التوتر فيه مقابل تصعيد المواجهة مع ايران. هذه المعطيات تشير بوضوح إلى ان الخطوات الأميركية هي خطوات مدروسة تعبر عن عملية إدارة المخاطر وتقع تحت سقف دفع الأكلاف المقبولة مقابل الوصول للأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى، مما يرجح بدوره أن يكون التقارب الأميركي الروسي هو تقارب مرحلي مدروس وليس منعطفًا استراتيجياً يعبر عن تحول عميق في تصور الإدارة الأميركية للنظام الدولي. ناهيك عن أن أزمات السياسة الداخلية الأميركية التي تلاحق الرئيس دونالد ترامب دفعته مضطرا كما هي عادة العديد من الرؤساء الاميركيين للتوجه نحو السياسة الخارجية حين تتأزم السياسة الأميركية الداخلية، وليس الحملة السياسية والإعلامية التي تعرض لها الرئيس دونالد ترامب عقب قمة هلسنكي إلا دليلاً واضحاً على هذا الدافع.
ثالثا: إن الولايات المتحدة ظهر بشكل واضح خلال قمة هلسنكي أنها غضت الطرف عن الأمر الواقع المحيط بضم القرم إلى روسيا الاتحادية وبما يتعلق بالأزمة الأوكرانية عموما.
وغض الطرف الأميركي هذا هو تخلي مدروس عن معركة خاسرة، فالولايات المتحدة أيقنت أن روسيا احكمت السيطرة على الواقع الميداني والسياسي فيما يتعلق بهذه القضية، والولايات المتحدة دفعت على حساب الأزمة الأوكرانية كي تريح روسيا في جوارها القريب مقابل ان تراعي روسيا الهواجس الأميركية فيما يتعلق بالأزمة السوريّة، وما صدر في المؤتمر الصحافي المشترك للرئيس بوتين والرئيس ترامب عقب قمة هلسنكي يظهر بوضوح أن الرئيس بوتين بيد أعطى الولايات المتحدة ما يطمئنها بخصوص نتائج الأزمة السورية ووفر لها ما يضمن أمن الكيان الصهيوني، وباليد الأخرى انتزع الولايات المتحدة اعتراف بتفوق الدور الروسي في الأزمة السورية وبدخول النفوذ الروسي الى منطقة الشرق الأوسط بعدما كان النفوذ الأميركي يتفرد في منطقة الشرق الأوسط، وليس القمة الثلاثية الروسية التركية الإيرانية التي عقدت في طهران بتاريخ 07-09-2018 الا دليلاً واضحاً على الدور الروسي المتراكم، الآخذ نحو التوسع من جهة، ومن جهة أخرى تمثل صفعة قوية للمسعى الأميركي التي عبرت عنه احاديا في قمة هلسنكي والهادف للحد من النفوذ الإيراني في الشرق الاوسط.
وعلى الضفة الأخرى فإن المناورات العسكرية الروسية الصينية المشتركة، وهي المناورات الأضخم منذ الاتحاد السوفياتي والتي انطلقت في 06-09-2018 تحت عنوان "مناورات الشرق 2018" تظهر أن محاولة ابعاد روسيا عن الصين لم تنجح، ويبقى أن نذكر أن الولايات المتحدة دخلت في حرب تجارية مع الصين وآخرين وهي حرب بلا افق وغالبا ما ستنتهي برفع الحواجز الجمركية الإضافية التي وضعتها الولايات المتحدة لترفع بالمقابل الجهات الأخرى الحواجز الجمركية التي وضعت على البضائع الأميركية. مما يعني أننا مقبلون على محاولات أميركية جديدة تسعى من خلالها إلى إعادة التوازنات الدولية للوضع الذي يتناسب مع أهدافها ومآربها على مختلف المسارح الدولية في آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط وغيرها من المسارح، ما ينذر بحالة من التجاذب قادرة على ان تأخذ اشكالا متعددة تبدأ من الحراك والثورات والانقلابات المفتعلة مرورا بالحروب الداخلية وصولا للحروب بالوكالة وإلا فالعودة الى طاولة المفاوضات أو التفاهمات على المستوى الأميركي–الصيني-الروسي كمرحلة أولى، ليتبعها بعد ذلك تفاهمات إقليمية تشكل تظهير لنتائج تفاهمات المستوى الأول.