لم تكن تل أبيب ترتاح للخطوات الروسية في سوريا. سبق وأن زار رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو روسيا مرات عدّة، خلال عام فقط، وارسل وفودا استخباريّة وسياسيّة ودبلوماسيّة، لمحاولة التأثير على قرارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن الشرق الأوسط، ومن ضمنها الساحة السورية. لم يرضخ بوتين لمطالب تل ابيب، رغم العلاقات الاقتصاديّة، والعسكريّة، والاستراتيجيّة بين البلدين. هما يرتبطان بصلات عميقة، على كل صعيد، خصوصا ان عددا كبيرا من اليهود الاسرائيليين هم روس بالاساس. لكن رغم كل ذلك، لم يرضَ بوتين بالتراجع عن سياساته في سوريا، وبالتالي الشرق الاوسط. هو يعرف ان تل ابيب حليفة درجة ثانية لموسكو، لأن الدرجة الاولى هي واشنطن بالنسبة الى الحكومات الاسرائيليّة منذ تأسيس الكيان. علماً ان تل ابيب توحي انها بوضع صعب: الدولة الأميركية العميقة تتهمها بالتنازل للروس، وبوتين يعتبرها خادمة للمصالح الأميركية على حساب موسكو. من هنا يدور نقاش اسرائيلي داخل اروقة الحكومة والاستخبارات، كما قالت صحف عبريّة: احد الافرقاء يدعو الى التمهّل، وعدم استفزاز الروس في سوريا، وآخرون يرون في الاستمهال فرصة لإيران وحلفائها من اجل تثبيت نفوذهم. لم يستطع الإسرائيليون الوصول الى تفاهم، فأتى قرار الاستعانة بخطة استخباريّة.
تلك الخطة قامت على اساس معلومات إسرائيليّة دقيقة، عن وجود طائرة استخبارات روسيّة آتية الى مطار حميميم في سوريا. فشكّلت تل أبيب وواشنطن وباريس ولندن غرفة عمليّات مشتركة، قضت بإستهداف مشترك لمراكز عسكريّة سوريّة، ما يجعل الرد السوري الصاروخي فوريا، فيصار الى استهداف الطائرة بأيّ وسيلة كانت، سواء عبر نيران صديقة، او بواسطة صاروخ اسرائيلي موجّه من الطائرات. تلك كانت رسالة إسرائيليّة ضمنيّة، ناريّة مباشرة، الى موسكو، مغطّاة بقرار غربي مشترك ترعاه واشنطن، لضمان عدم الرد الروسي المؤلم.
لكن الروس، فهموا الرسالة، ولم يرضخ بوتين، ولم يقبل بالتبريرات. ولم يوافق على مضمون اتصال رئيس الحكومة الاسرائيليّة به. هو يعرف ان الرد على تل أبيب صعب، يضع المصالح المشتركة التاريخية بين البلدين على المحك، وستكون موسكو متضررة. لكن قراره بتزويد سوريا بصواريخ اس ٣٠٠، هو اكثر ايلاماً لتل أبيب، التي كانت تعتبر ان بوتين لن يجرؤ على اتخاذ قرار خطير بالنسبة اليها. لأن تفعيل منظومة تلك الصواريخ في الدفاعات الجويّة السوريّة تعني منع الطائرات الإسرائيليّة من التحليق فوق سوريا ولبنان والجولان، ويستطيع السوريون استهدافها حتى لو كانت فوق تل أبيب. وفي حال قام لبنان بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك مع سوريا، فلن تتجرأ الطائرات الاسرائيليّة على التحليق قرب الحدود اللبنانية.
انه الردّ الاكثر فاعليّة لروسيا على اسرائيل، بالواسطة، ومن دون الدخول في أيّ اشتباك مباشر.
يعرف بوتين ان قرارات خطيرة كهذه ستقود تل ابيب الى تفعيل اللوبيات اليهوديّة في الاتحاد الروسي ضدّه، لكنه يدرك تماما أنّ عدم الرد سيجعل الهيبة الروسية في مهبّ الريح. خصوصا ان المواجهة غير المباشرة مع تل أبيب قائمة، بإعتبار ان الاسرائيليين يخدمون الدولة الاميركيّة العميقة التي تحارب بوتين، وتستهدف موسكو بالعقوبات. لذلك فإن الردّ الروسي على تل أبيب هو من ضمن المواجهة القائمة بين واشنطن وموسكو، عبر العقوبات، والتمدد، والاعاقات المتبادلة في اوكرانيا، وسوريا، ومساحات اخرى.
هل يعني ان بوتين صار حليف الإيرانيين ضد الاسرائيليين؟. لا توحي التجارب ان بمقدور الروس ان يكونوا اعداء للاسرائيليين، لاعتبارات ديمغرافيّة، وامنيّة، واقتصاديّة، عقائديّة في صلات يهوديّة معمّقة. لكن بوتين المعجب تاريخيا بالقدرات الاسرائيلية، لم يعد ذاته التوّاق الى اولوية علاقات بلاده مع اسرائيل على حساب مصالح روسيا العظمى. هو يعيد أمجاد القياصرة في التمدّد والتوسع والنفوذ، مقابل معوقات أميركيّة تشكل اسرائيل احدى ادواتها. وفي هذه الحالة تصبح المصلحة العامة الروسيّة اهم عنده من علاقات تاريخيّة او اعجاب شخصي او مصالح يمكن الحفاظ عليها. لأجل ذلك، لا يمكن لبوتين ان يقبل بسياسة اسرائيليّة تضعه بين فكّين. فكان الخيار بتعزيز الدفاعات الجويّة السوريّة، وفرض نفوذه، بعدما استنتجت موسكو ان هناك خطّة للاطاحة بكل ما استحصل عليه الروس منذ سنوات. هل تقف قواعد الاشتباك عند هذا الحد؟. يخوض الاسرائيليّون معارك بكل الاتجاهات: لا يريدون لروسيا ان تكون حليفة ايران، وهم بأفعالهم رموها في مساحة التحالف مع طهران، وفي الوقت نفسه يريدون بوتين موظفاً في خدمة المصالح الاسرائيليّة في سوريا، لكنهم يتعاونون مع الدولة الأميركيّة العميقة ضدّه، ولا يتعاونون مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يتّجه الى لومهم لعدم تسهيل "صفقة القرن". انها الخيارات المفتوحة، سيستفيد منها "محور المقاومة" بجميع الحالات. لكن هل تذهب اسرائيل الى حرب مفتعلة للهروب من الازمة؟ انها الخيار المحتمل، الصعب ايضا، لان النتائج لم تعد مضمونة، كما كانت تخطّط لها. لكنها قد تكون الخيار الوحيد بعدما ضاقت السبل امامها.