الضحك الذي قطع خطابَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب من على منبر الأمم المتحدة قد يكون عكس وجهاً من وجوه الصدمة التي خلّفها كلامُه.
وكعادته ووفق أسلوبه جاء خطابُ ترامب ليكسرَ القواعد السياسية وهو ما حدا بالبعض لوصفه بـ»بالمجنون»، لكنّ الرئيس الأميركي وبخلاف الانطباع الأوّلي الذي ظهر يدرك جيداً ماذا يفعل وعلى أيِّ هدفٍ يصوّب.
صحيح أنه اعتلى أرفعَ منبر أُممي لكنّ كلامه كان موجّهاً الى الداخل الأميركي على بعد اسابيع من انتخابات مصيرية له ولحزبه.
ويبدو أنّ ترامب أصاب هدفه، فوفق أسرع استطلاع للرأي بدا أنّ الشارع الأميركي تفاعل إيجاباً مع خطاب رئيسه. ولكن ما تزال اكثر من خمسة أسابيع تفصل عن موعد فتح أبواب مراكز الاقتراع.
ولم يكن الشارع الاميركي وحده المرحّب بخطاب ترامب، ذلك أنّ الزعماء الاسرائيليين هلّلوا لما سمعوه عن الشرق الاوسط، الى درجة أنّ وزير الدفاع افيغدور ليبرمان اعتبر أنّ الرئيس الأميركي هو الوحيد بين زعماء العالم الذي فهم الشرق الأوسط، متمنّياً أن يستمع قادةُ العالم لهذا الخطاب.
ترامب وبعد دعوة العالم الى وقف التعامل مع إيران اعتبر أنّ أيَّ حلٍّ في سوريا يجب أن يتضمّنَ خطةً للتعامل مع إيران.
وهذه النقطة بالذات تُفرح قادة إسرائيل، في وقتٍ تشهد التفاهماتُ الروسية- الاسرائيلية حول الساحة السورية تدهوراً كبيراً، وقبل لقاء نتنياهو - ترامب كان يعوّل نتنياهو على مساعدةٍ أميركية في سوريا، ولذلك اصطحب معه مدير «الموساد» يوسي كوهين.
وفي اللقاء الاخير بينهما في آذار الماضي والذي دام لأكثر من ساعتين، لخّص نتنياهو ما دار بينهما عندما قال «إنّ نصف الاجتماع، لا بل اكثر، خُصِّص لإيران فيما تحدثنا لربع ساعة عن الفلسطينيين».
وهذه المرة لن تكون الصورة مختلفة، على رغم الكلام الدائر حول نيّة ترامب فتح الطريق امام «صفقة العصر»، فنتنياهو لن يلتقي الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وفي أيّ حال فإنّ ترامب لن يخاطر بإغضاب اللوبي اليهودي قبيل الانتخابات النصفية المهمة حتى ولو افترضنا انه يرغب بالضغط على نتنياهو.
ولكنّ ترامب الذي دخل لتوّه في حربٍ تجارية مع الصين تبدو جهودُه في الشرق الأوسط مبعثرة في سعيه الى التوازن مع روسيا التي سجّلت تفوّقاً في بيع القمح وتجاوزت الولايات المتحدة الأميركية لتتربّع على عرش مصدّري القمح في العالم.
موسكو كسبت مرتين من خلال إعلانها تسليم سوريا منظومة «إس 300» للدفاع الجوي: المرة الاولى امام إسرائيل ومن خلفها الإدارة الأميركية حيث جعلت العمليات الأميركية من خلال سلاح الجوّ الإسرائيلي محكومةً بالسقف الروسي. وفي المرة الثانية بتوسيع مساحة تحكمها داخل الجيش السوري من خلال نشر مزيد من الضباط الروس داخل غرف العمليات الجوية السورية وأنظمة الدفاع الجوي.
وربما تبقى معرفة اماكن نشر منظومة صواريخ «اس 300» عندما تتسلّمها سوريا رسمياً. الحديث يدور الآن عن تركيب أربع بطاريات في مكانين يشكّلان الممرَّ الجوّي للطائرات الإسرائيلية. الأولى عند طول الساحل السوري والثانية جنوب غربي سوريا. وربما قد تُخضِع موسكو منطقة جنوب غرب سوريا للتفاوض لاحقاً مع الولايات المتحدة الأميركية. إلّا أنّ منطقة الساحل السوري أصبحت خاضعةً لقرار إقفالها بوجه الطائرات الإسرائيلية.
وهذا ما يترافق مع التفاهمات السابقة حول «تفهّم» متطلّبات إسرائيل الأمنية وبالتالي ترك المنطقة جنوب دمشق خاضعةً للرقابة الجوّية الإسرائيلية في وجه إيران.
اما المنطقة الشمالية حيث معقل الرئيس السوري وأيضاً قاعدتا حميميم وطرطوس فهي ستبقى تحت النفوذ السوري والروسي فقط لا غير.
معارضو ترامب يأخذون عليه أنه جمع الصين وروسيا وإيران في جبهة واحدة ضد بلاده وهو ما يناقض المبدأ السياسي الاميركي التاريخي والقائم على عزل الخصم وتركه وحيداً بعد محاصرته وإنهاكه.
مستشار الأمن القومي جون بولتن كان الأكثرَ وضوحاً حيال الخطوة الروسية. فبعد أن اعتبرها خطأً فادحاً، أشار الى أنّ واشنطن هي المقصودة بالإجراء الجديد متذرّعاً بأنها ستؤثر على عمل سلاح الجوّ الأميركي في حربه ضد «داعش» واصفاً الجيش السوري بافتقاده الى الاحتراف.
في المقابل وخلال تواصل الحكومة الاسرائيلية مع السلطات الروسية حمّلت موسكو المسؤولية الكاملة للجيش الاسرائيلي ملمّحة الى وجود «قطبة» مخفيّة لدى الجيش الإسرائيلي لا تعرفها الحكومة، أو بما معناه أنّ الجيش الاسرائيلي تقصّد ما فعله بطلب خارجي.
ومنذ بداية العام 2017 شنّت إسرائيل أكثر من 200 هجوم على الاراضي السورية، وهو حجم لا تستسيغه روسيا التي تتصرّف على أساس أنها صاحبة القرار الدولي في سوريا، وبالتالي فإنّ هذا العدد من الهجمات لا يتناسب مع مبدأ حماية المصالح الأمنية الاسرائيلية. إنه اكثر من ذلك.
وفي الدوائر الاسرائيلية كلام حول قدرة سلاح الجوّ الاسرائيلي على ضرب منظومة «إس 300» عند وصولها الى الميناء أو المطار مباشرة، لا بل إنه حتى ولو جرى تركيبُ هذه القواعد فإنّ الطائرات الاسرائيلية قادرة على تدميرها. ووفق صحيفة «هآرتس» فإنّ سلاح الجو الاسرائيلي تدرّب سابقاً على المهمات التي يتعيّن فيها التعامل مع بطاريات «إس 300» والتي كان باعها الروس لقبرص التي نقلتها الى اليونان وساعدت إسرائيل على فكّ شيفرتها. لكنّ المسألة ليست عسكرية بحتة. هي بجزء كبير منها سياسية، وأيّ اقتراب من هذه المنظومة سيعني تأجيج الأزمة مع روسيا وربما الذهاب الى مكان بعيد كون الهيبة العسكرية الروسية تصبح المستهدَفة.
ووفق هذه الصورة تصبح الخيارات الأميركية ضيّقة وبخلاف الصورة التي سادت خلال الاشهر الماضية، فإنّ العلاقة بين طهران وموسكو تشهد تفاهماً كاملاً إن على مستوى سوريا أو حتى على مستوى الخريطة المجاورة.
ويبدي الحرس الثوري الإيراني اطمئنانَه الكامل الى تفاهمات تمّت مع موسكو وتطاول الوضع في العمق واحتمالات المستقبل.
كذلك فإنّ العلاقة بين «الحرس الثوري» وجناح الإصلاحيين برئاسة الرئيس حسن روحاني تبدو جيدة وسط تفاهمات على العناوين الكبرى، وهو ما يقطع الطريق على الأميركيين من أيِّ محاولات لإثارة نزاع إيراني داخلي.
كذلك تبدو إيران مطمئنةً الى وضعها الاقتصادي على رغم التأثيرات السلبية للعقوبات الأميركية. فهي تُبدي ثقة بقدرتها على تجاوزها بما فيها ايجاد طرق بديلة لتصريف النفط الإيراني وهو المصدر الأساسي للدخل.
وصحيح أنّ إيران تبدو واثقة من صعوبة شنّ الاميركيين أو الاسرائيليين حرباً ضدها، لكنها وضعت احتمالاً واحداً لاندفاع الامور نحو المجهول وهو قطع تصدير النفط الإيراني بكامله. هذا الاحتمال فقط سيدفع المنطقة الى المجهول بقرار إيراني، وبدءاً من إغلاق مضيق هرمز.
لكن هذا لا يمنع من ترقّب واشنطن الردّ الإيراني على عملية الأهواز، والذي يشكّل ثاني اعتداء أمني واسع بعد عملية حزيران 2017 حين اقتحم إرهابيون مرقد آية الله الخميني ومبنى البرلمان.
في الأهواز عاصمة إقليم خوزستان هنالك مَن بدأ يضيف هدفاً جديداً لما حصل. فعدا استهداف الحرس الثوري كدرع للنظام في منطقة تشهد اضطرابات بين الإيرانيين من أصول عربية والفرس، فإنّ إقليم خوزستان يضمّ حقول النفط الرئيسة لإيران، فهل إنّ هناك مَن يستهدف بنيتها التحتية النفطية؟
إيران ستردّ بلا أدنى شك؟ ولكن أين وكيف؟