كثيرون يتحدثون اليوم عن الصعوبات الاقتصادية والمالية التي يواجهها لبنان. الناس والخبراء يعرفون أن المشكلة في الحكام، الذين يجب عليهم جميعاً، مغادرة الحكم الآن قبل أي وقت آخر. لكن الخبراء يعرفون أن الأمر لن يحصل. أما الناس، فقد جددوا الثقة بهذه الطبقة في الانتخابات النيابية التي جرت قبل أشهر. ما يعني أنه قد يكون مناسباً نصح الجمهور بأن يتوقف عن «النق»، وأن يدرك أن هذا ما فعلته يداه. أما الخبراء، فهؤلاء من يجب التعويل عليهم في تقديم مشروع إدارة بديلة للدولة. لكن وجب فرز الغث من السمين بينهم. فبينهم مجموعة أظهرت الأيام أنها جزء من الأزمة، وجل عناصرها متورط ومستفيد وإن كان احتجاجه اليوم ناجماً عن إبعاده أو ابتعاده. وفئة ثانية تعمل عند الخارج المهيمن أو الساعي إلى الهيمنة على لبنان، وهؤلاء، يمكن أن تتعثر بهم في عجقة المنظمات غير الحكومية، واللوائح البلدية والنيابية الناطقة باسم المجتمع المدني وخلافه من المؤسسات. وهي فئة يفترض بوزارة الصحة حظرها لما تمثله من خطر على السلامة العامة. أما الفئة الثالثة، وهي متعلمة ومجربة في أعمال القطاعين العام والخاص، فإنها تعاني أزمة إطار. وضعف بنيتها التنظيمية يجعلها هدفاً سهلاً لسارقي البلاد والعباد.
وكثرة الحديث عن طبيعة الصعوبات لا تعني قرب العلاج. بل ربما تعني أن العلاج قد يكون أصعب من ذي قبل. وطالما أن الجميع لا يريدون توزيعاً عادلاً لكلفة الخسارة، فإن من الصعب توقع تبدلات جذرية، ما يجعل البحث عن أسباب إضافية للأزمة أمراً منطقياً ما دام الإصلاح صعب المنال. ولا يجب استغراب سماع المزيد من الأصوات التي تعتبر لبنان، حكومة وشعباً ومؤسسات، بلداً عاجزاً عن إدارة أموره بنفسه، وأنه يحتاج الى وصي.
المزعج اليوم هو الإشارات السياسية الكثيرة لعمل تقوده الولايات المتحدة وأوروبا، ومعهما السعودية وإسرائيل، هدفه دفع البلاد صوب مرحلة قاسية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وأمنياً. هؤلاء يعتقدون ــــ وهذا صحيح ــــ أن فريقهم السياسي خسر معركة العقد الأخير. وهم بالتالي لا يقبلون استقرار لبنان إن خرج من تحت سيطرتهم. ويفضلون أن يكون بلداً منهكاً ومنكسراً ما دام هو تحت سيطرة الآخرين. وهذا عنوان استراتيجية يمكن قراءة عناصرها بـ :
ــــ تصاعد برامج العقوبات التي تجعل حصول لبنان على مساعدات مالية واقتصادية من الخارج أمراً صعباً ومعقداً للغاية.
ــــ رفع مستوى الإجراءات العقابية بحق مؤسسات كبيرة وشخصيات ومجموعات، بحجة أنها تخدم مباشرة أو غير مباشرة الإرهاب المتمثل بحزب الله.
ــــ رفض التعاون السياسي مع أي رئيس للجمهورية أو المجلس النيابي أو الحكومة إذا لم يكن رأس حربة في مواجهة حزب الله.
ــــ إدراج لبنان في خانة الدول الفاشلة التي لا يمكنها استقطاب مستثمرين في كل القطاعات، وجعل من يحمل جنسية هذا البلد ساعياً إلى التخلي عنها والانتقال للعيش في بلاد أخرى، من دون أن يبقى على صلة ببلده، ومنعه من تحويل مدخرات قليلة بحجة أنها ستذهب حكماً لخدمة حزب الله.
عون وحزب الله لا يتخلّيان عن الحريري ولا يستسلمان
ــــ وضع لبنان في موقع المستهدف أمنياً وعسكرياً إلى أن «يسرّح» المقاومة وينزع سلاحها ويعتقل المقاومين ويمنع أي موقف سياسي أو إعلامي من شأنه إغضاب أميركا وإسرائيل والسعودية.
كل هذه الضغوط ستتواصل، لكن ما يدعو الى القلق هو الضغط الكثيف من هذه العواصم لمنع قيام حكومة لا يحظى حلفاؤهم فيها بحق الفيتو الشامل. وقد انتقل هذا الفريق الى مستوى جديد من الضغط، من خلال القول إن على الحريري أن يبتعد معتذراً، وأن يترك للرئيس ميشال عون وحليفه حزب الله أمر إدارة الأزمة، وعندها سيكون الانهيار الكبير الذي يمهد لإعادة الإمساك بلبنان من خاصرته الاقتصادية. وفي هذا السياق، ترد الضغوط القائمة باسم التشكيلة الحكومية، وتراجع الواردات الى لبنان على أنواعها، والسعي لمنع قيام أي علاقة طبيعية مع سوريا، وتعطيل مشروع عودة سريعة وكثيفة للنازحين السوريين الى بلادهم، وفوق ذلك، برنامج تهويل فكاهي تقوده إسرائيل محذرة من مخاطر حرب تحطم ما تبقى من لبنان بسبب حزب الله.
صحيح أن عون وحزب الله ليس في مقدورهما الآن قلب الطاولة، لكن الأهم أنهما ليسا في هذا الوارد. بل على العكس، فإن الحريري نفسه سمع ما يريد وما يجب أن يسمعه، من أن عون وحزب الله يريدان أن يكون هو رئيس الحكومة، ولن يتخلّيا عنه إلا إذا قرر هو الابتعاد. ثم إن الطرفين غير راغبين ــــ وإن كانا قادرين ــــ في الذهاب نحو تشكيل حكومة لا تضم بقايا 14 آذار، وعلى العكس، فقد لا يكون مستبعداً حصول مفاجأة بتشكيل حكومة لا تناسبهما تماماً، وإن يكن الأمر مستبعداً. لكن الفكرة أن عون وحزب الله ليسا في وارد تسهيل مهمة القوى الخارجية والداخلية الساعية الى ابتزاز اللبنانيين وتهديدهم بالانهيار.
يبقى أمر أخير، وهو نصح القوى الخارجية ومن يعمل معها في لبنان، بعدم التصرف على أساس أن انهياراً مالياً أو اقتصادياً من شأنه إيقاع لبنان في أحضانهم. بل عليهم التفكير ملياً بأن للطرف الآخر رأيه الذي يقول إن كلفة مقاومة مشروع سيطرة الغرب على البلاد، مهما كانت قاسية، ستبقى أقل بكثير من كلفة حصول هذه السيطرة فعلياً.