بعد مُرور أربعة أشهر ونصف على تكليف رئيس "تيّار المُستقبل" سعد الحريري تشكيل الحُكومة الجديدة، لم تُبصر حُكومته الثالثة النور بعد. فما هي الوقائع التي جرى تثبيتها خلال هذه المُهلة، وما هي "السيناريوهات" المُفترضة؟.
أوّلاً: لا يزال رئيس الحكومة المُكلّف يرفض تقديم تشكيلة حُكوميّة قبل الحُصول على توافق كبير عليها مُسبقًا، على الرغم من تطمينه من أنّ "سيناريو" إعادة تكليفه مُجدّدًا الذي كان قد حصل خلال العام 2009 سيتكرّر معه مُجدّدًا اليوم(1). والسبب أنّ الحريري يُدرك تمامًا أنّه في العام 2009 كان "تيّار المُستقبل" أقوى بكثير نيابيًا، وكان يُمسك مع حلفائه في قوى "14 آذار" آنذاك، بالأغلبيّة النيابيّة، ما سهّل إعادة تكليفه وولادة حُكومته الأولى. أمّا اليوم، فالوضع مُختلف، حيث أنّ "تيّار المُستقبل" أضعف نيابيًا عمّا كان عليه قبل عقد من الزمن، وعقد القوى التي كانت تُشكّل تجمّع "14 آذار" في حينه قد إنفرط، وحجم "المُستقبل" النيابي مع القوى الحليفة لا يُخوّله تأمين أيّ أغلبيّة نيابيّة. وبالتالي يُدرك رئيس "تيّار المُستقبل" أنّ إعادة تكليفه بعد فشل أي تشكيلة حُكوميّة رسميّة يرفعها إلى رئيس الجُمهوريّة، سيتمّ وفق شُروط مُحدّدة في ما خصّ الحُكومة المُنتظرة، الأمر الذي سيُجبره على الإنتقاء بين واحد من خيارين: إمّا الإعتذار عن مهمّة التشكيل أو الرضوخ لشروط تأليف حُكومة لا تُناسب القوى الحليفة بالتأكيد.
ثانيًا: تبيّن أنّ كل ما جرى تسريبه عَمدًا إلى الإعلام عن مُهل قُصوى وعن إجراءات دُستوريّة وعن ضُغوط ميدانيّة لا يعدو كونه عبارة عن ضُغوط معنويّة في إطار عمليّة "شدّ الحبال" الحاصلة منذ أربعة أشهر ونصف، خاصة وأنّ البُنود الدُستوريّة تُحصّن رئيس الحُكومة المُكلّف في موقعه من دون أي أفق زمني، طالما أنّه لم يُقدّم أي تشكيلة لنيل الثقة، وبما أنّ سُلطات رئيس الجمهورية في دُستور ما بعد الطائف لا تتجاوز مسألة رفع الصوت في رسالة إعتراضيّةتُوجّه إلى المجلس النيابي، بغضّ النظر عمّا جرى تسريبه من مُطالعات دُستوريّة لم تحصل سوى على تأييد مُعدّيها. وبالتالي، إنّ إستمرار غياب التوافق يُمكن أن يُؤدّي إلى هدر المزيد من الوقت، من دون إمكان إتخاذ أي إجراءات دُستوريّة تُنهي حال المُراوحة المُستمرّة منذ 24 أيّار الماضي.
ثالثًا: يُواجه رئيس الحكومة المُكلف مُشكلة مُعقّدة، حيث أنّه عالق ما بين حرصه على عدم الخروج من التوافق الذي حصل مع "التيّار الوطني الحُرّ" خلال مرحلة "التسوية الرئاسيّة" من جهة والذي سمح له في حينه أن يرأس أوّل حُكومة بعد الانتخابات الرئاسيّة(2)، وحرصه على عدم إغضاب كل من حزبي "القوّات اللبنانيّة" و"التقدّمي الإشتراكي" والقوى الإقليميّة التي تقف خلف هذا المحور من جهة أخرى. وهو بالتالي، عاجز عن فرض التنازلات على طرف واحد، لا من جهة "التيّار" الذي يفتقر إلى أي مَونة عليه، ولا من جهة "القوات" و"الإشتراكي" دون "التيّار"، ما يعني عدم قُدرته سوى على إنتظار تقديم تنازلات مُتبادلة، لأنّ مُحاولات تدوير الزوايا فشلت كلّها في الأسابيع والأشهر القليلة الماضية.
رابعًا: التقاطع بين كل من "التيّار الوطني الحُرّ" و"حزب الله" للحفاظ على أعلى درجات الإستقرار الداخلي أمّنت الحماية لمُشاركة "تيّار المُستقبل" في السُلطة بفعاليّة، وأبعدت عن رئيس الحكومة المُكلّف خيار الضُغوط الشعبيّة والميدانيّة. والتقاطع بين حزب "القوّات اللبنانيّة" و"تيّار المردة" على مُواجهة مُحاولات رئيس "التيّار" وزير الخارجية والمُغتربين في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل فرض سيطرته المُطلقة على الساحة المسيحيّة، جعلهما أقرب من أيّ وقت مضى، وعزّز موقع "القوّات" التفاوضي، خاصة وأنّ هذا التقاطع في المصالح السياسيّة يتلاقى مع تقاطع آخر لا يقلّ أهميّة ما بين رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي و"الحزب التقدّمي الإشتراكي" على عدم نفخ قُدرات "التيّار الوطني الحُرّ" على مُستوى السُلطة التنفيذيّة والحُكم ككلّ. وهذا يعني أنّ الجهات المُعارضة لنيل كل من رئيس الجمهورية و"التيّار" على أغلبيّة النصف زائد واحد في الحُكومة، وعلى حصّة وزاريّة كبيرة ووازنة، مُتعدّدة، ولوّ أنّ أغلبيّة هذه القوى تعمل بشكل مُباشر بحجّة الدفاع عن "حصّتها المُستحقّة"، ولوّ أنّ بعضها–وبغضّ النظر عن التموضع السياسي العريض، يعمل خلف الكواليس أيضًا لمنع "التيّار" من الإستئثار بالسُلطة، ما شكّل "مُشكلة" كبيرة لهذا الأخير.
خامسًا: الطريق أمام فرص نجاح أي حُكومة "وحدة وطنيّة أو إئتلافيّة"، غير مُعبّد على الإطلاق، لأسباب عدّة، بغضّ النظر عن التركيبة التي سيتمّ الخروج بها في نهاية المطاف. فحتى في حال النجاح في تذليل العقبات التي تحول دون تشكيل حُكومة العهد الثانية، وحكومة الحريري الثالثة، ومن ثم النجاح في تجاوز مطبّات البيان الوزاري، ومسألة نيل ثقة المجلس النيابي، فإنّ هذه الحُكومة لن تعمل كحكومة مُنسجمة بعد كل التصدّعات التي حصلت، حيث يُتوقّع أن تعمل أحزاب عدّة، مثل "القوّات" و"المردة" و"الإشتراكي" على عدم تسهيل قرارات وزراء "التيّار" بسبب سوء العلاقة القائمة حاليًا–ولوّ بدرجات مُتفاوتة، في حين أنّ القوى الحزبيّة والنيابيّة التي سيتمّ إبعادها عن الحُكومة المُقبلة، مثل "الكتائب" و"القومي" والعديد من النوّاب المُستقلّين السنّة وغيرهم، لن يكونوا بدورهم داعمين لحكومة العهد. كما أنّ قوى مُختلفة تأقلمت مع الحُكم القائم كأمر واقع، مثل "حركة أمل" وغيرها، لن تكون في موقع الساعي لنجاح عهد العماد ميشال عون. وباختصار، إنّ سياسة التحدّي بدلاً من التوافق، ستجعل أجواء التشاؤم تطغى مُستقبلاً على أي أجواء تفاؤليّة مَوعودة، والعكس صحيح!.
(1) في 27 حزيران 2009، كلّف رئيس الجمهوريّة (آنذاك) العماد ميشال سليمان رئيس "تيّار المُستقبل" سعد الحريري تشكيل حُكومته الأولى، وهو قدّم بعد نحو شهرين ونصف تشكيلة أوّليّة إلى الرئيس السابق سُرعان ما رفضتها المُعارضة. وبعد إعتذاره عن مهمّة التشكيل، أعاد سليمان تكليف الحريري مُجدّدًا بهذه المهمّة في 16 أيلول، كونه حصل مُجدّدًا على دعم أكثريّة نيابيّة في الإستشارات المُلزمة، وقد نجح رئيس الحكومة المُكلّف في تشكيل حُكومته الأولى في 9 تشرين الثاني 2009، وهي إستمرّت في الحُكم إلى حين إسقاطها من قبل أحزاب قوى المُعارضة (في حينه) في 12 كانون الثاني 2011.
(2) في بداية عهد الرئيس العماد ميشال عون، وإلتزامًا بتعهّدات التسوية الرئاسيّة غير المُعلنة، تمّ تكليف الحريري مُجدّدًا تشكيل الحُكومة في 11 تشرين الثاني، وهو نجح في ذلك بعد مُرور 40 يومًا فقط على هذا التكليف.