في معرض تطبيقه لاستراتيجية القوة الناعمة والمؤكد عليها في المفهوم الاستراتيجي للحلف الأطلسي للعام 2010 اتجه معسكر العدوان على المنطقة الى سورية بعد فشله في لبنان في العام 2008 وعجزه عن النيل من المقاومة عبر تفكيك سلاح الإشارة فيها، وبعد فشله في تحقيق مبتغاه في إيران في العام 2009 وانهيار خطة إسقاط إيران من الداخل عبر انتفاضة احتجاج شعبية عوّلت عليها أميركا ومعها مكونات معسكر العدوان الأخرى التي تعتبر «إسرائيل» ممثلها الإقليمي في الشرق الأوسط.
لقد ظنّ معسكر العدوان انّ تدمير سورية وامتلاك السيطرة على أشلائها سيمكّنه من تفكيك محور المقاومة، ويمكّنه بالتالي من تمرير «تصفية القرن» التي تثبت «إسرائيل» نهائياً وجودياً ووظيفياً في المنطقة، وبعد ذلك يتمكّن معسكر العدوان من وضع اليد بشكل مطلق على الثروة النفطية والغازية في كامل المنطقة دون ان يكون لها شريك في الأمر.
وكادت قوى العدوان تصدّق لا بل تجزم بأنّ تحقيق هدفها في سورية ومنها الى المنطقة أمر يقيني لا توجد قوة تتمكّن من مواجهتها او تمنعها من تحقيق أهدافها خاصة أنها استعملت في الحرب جيشاً بديلاً تمثل بمجموعات إرهابية ناهزت 300 ألف مسلح جمعتهم من المنطقة ومن خارجها وأغدقت عليهم بسخاء كلي كلّ ما يتطلبه الميدان من مال وسلاح وتجهيزات، لأنها اعتقدت انّ النصر في سورية يعني أو يمكّن من ترتيب وضع المنطقة وحكمها لمئة عام مقبلة، ولذا فإنّ الحرب عليها تستحق كلّ هذا السخاء.
بيد انّ الميدان السوري كذّب ظنون وآمال وخطط قوى العدوان، فكان بشكل فرضت فيه او أنشئت عليه معادلات ولدت بشكل متتالٍ بعد ان برعت سوية ومحور المقاومة الذي يجمعها إلى إيران وحزب الله، برعت في الدفاع عن النفس خلال السنوات الأربع الأولى من العدوان ما مكّنها من المحافظة على هيكلية الدولة وموقعها الرسمي دولياً رغم ما أصابهما من ندوب وجراحات، وبعد النجاح الدفاعي هذا وبعد ان استجابت روسيا للطلب السوري، نجحت قوى المقاومة وبدعم روسي فاعل ومؤثر، من استعادة معظم ما كان خرج عن سيطرة الدولة السورية من أرض، ولم يبق إلا ملفان… ملف شرق الفرات وملف إدلب الذي جاء في سلم أولويات الدولة السورية بعد الفراغ من جبهة الجنوب.
هنا خشيت قوى العدوان من عملية عسكرية تنفذ لفكّ أسر إدلب ـ لذلك لجأت الى إعداد مسرحية استعمال مزعوم للكيماوي ليكون ذريعة لتدخل الغرب أميركا فرنسا بريطانيا وألمانيا في عدوان مباشر يمنع تحرير إدلب لكن روسيا التي كانت تتجنّب المواجهة مع الغرب عسكرياً عملت كلّ ما بوسعها لدحض المزاعم الغربية تلك لتمنع العدوان ثم انها اتجهت نحو شركائها في منظومة رعاية تفاهمات استانة علها تجد حلاً لإدلب يمنع المواجهة مع الغرب.
وبالفعل وفقت روسيا الى هذا المخرج في سوتشي بعقد اتفاق مع تركيا حول إدلب. اتفاق يعتبر بمثابة حلّ من طبيعة سياسية لها ترجمة ميدانية وصفة انتقالية مؤقتة تنتهي بعودة إدلب الى السيادة السورية كما حدّد الرئيس بشار الأسد.
وعندما بدأت الإجراءات لتحرير إدلب وفقاً لاتفاق سوتشي هذا تدخل معسكر العدوان لقطع الطريق ومنع التنفيذ عبر اعتداء مباشر على المنطقة ولم يتهيّب المعتدون الوجود الروسي في المنطقة حيث شاركت في العدوان كلّ من «إسرائيل» وفرنسا بريطانيا وطبعاً بإشراف وإدارة أميركية، ما تسبّب بقتل 15 ضابطاً روسياً من كبار الخبراء، وظنّ المعتدون انّ رسالتهم الى روسيا ستؤلمها فتتراجع وتحمل تركيا على وقف التنفيذ أيضاً.
ومرة أخرى تأتي الحسابات الميدانية خلافاً للتقديرات الغربية، حيث انّ روسيا ردّت على الجريمة بقرار استراتيجي زلزالي شكل انقلاباً في المشهد وكان من شأنه أن يقطع الطريق بنسبة عالية على أيّ عدوان كانت تهدّد به أميركا وحلفاؤها إذا حرّك ملف إدلب خارج الشروط الغربية الاستعمارية. وتمثل القرار الروسي بتعزيز قدرات الدفاع الجوي السوري بما يقفل الأجواء السورية في وجه الطيران المعادي وكلّ أنواع المقذوفات والقنابل والصواريخ الذكية التي يمكن أن تطلقها الأسلحة الغربية ضدّ سورية.
مع القرار الروسي صدم وبهت الذي أضمر العدوان والشر لسورية، وفي طليعة هؤلاء «إسرائيل» التي خسرت «ميدان رمي حر» كانت تراه في سورية، وخسرت أميركا ورقة التهديد بالحرب والعدوان، سحب من التداول الإعلامي الاستعمال المزعوم للكيماوي كما لا يمكن ان نغفل ما خسرته تركيا أيضاً من ورقة تسويف ومناورة تمكّنها من التملص أولاً من اتفاق سوتشي وتوفر لها فرصة منع او تعقيد عملية تحرير إدلب عسكرياً في حال الاضطرار اليها بعد فشل اتفاق سوتشي.
لقد قاد تسلسل الأحداث الدراماتيكي الى هذه المشهد الكئيب بالنسبة لقوى العدوان، مشهد تكاملت جزئياته مع انتصارات الجيش السوري في بادية السويداء على مشارف تلول الصفا وسقوط خطة أميركا في جعل المنطقة «طورا بورا، او مثلث برمودا «يغرق فيه الجيش العربي السوري ويثبت فيه الوجود الأميركي في قاعدة التنف ظهيراً للمجموعات الإرهابية لداعش.
فهمت «إسرائيل» هذا المستجدّ، ووقفت أمام الجدران المقفلة في سورية، فاتجهت للبحث عن جهات واتجاهات تنفس فيها احتقانها العدواني، فكان خطاب نتنياهو بمثابة الإعلان الأول للتحوّل في وجهة العدوان «الإسرائيلي»، واتخذ من منصة الأمم المتحدة منبراً للإعلان عن ذلك عبر تلك المسرحية التي أظهر فيها صوراً لما زعم انها مخازن صواريخ او أسلحة نووية في كلّ من لبنان وإيران في إشارة فهم منها البعض بانّ نتنياهو يحضّر الرأي العام الداخلي والدولي لعدوان في هذين الاتجاهين.
بيد انّ الواقع وردة الفعل الإيرانية واللبنانية حرمت «إسرائيل» من فرص النجاح في هذه المناورة، والكلّ يعلم انّ «إسرائيل» بمفردها لا تستطيع ان تواجه إيران ولو كانت قادرة لما تأخرت هذه السنوات العشر وهي تصرخ من خطر النووي الإيراني المزعوم، ثم كانت الصواريخ الإيرانية على داعش شرقي الفرات بمثابة الرسالة لأميركا ولـ «إسرائيل» عما ينتظرهما في حال العدوان.
أما في لبنان فكان السلوك الرسمي والشعبي مؤلما لـ «إسرائيل»، الى الحدّ الذي جعل أميركا ترفض هذا السلوك، ولكن قبل هذا الردّ فقد كانت ولا زالت تتصاعد عوائق مانعة لـ «إسرائيل» من أيّ اعتداء، عوائق تنتجها معادلات الردع الاستراتيجي العميق التي أرسيت بشكلها النهائي في العام 2014 ما يمنع «إسرائيل» من العدوان، وبالتالي تجعل من إمكانية ممارسة «استراتيجية التنفيس» في لبنان او في إيران أمراً غير قابل للتطبيق دون تعريض «إسرائيل» لخطر كبير لا تستطيع احتواءه. ولكن يبقى السؤال هل يسدل الستار «إسرائيليا» على تطبيق هذه الاستراتيجية الآن أم هناك ميدان آخر تستطيع «إسرائيل» الذهاب إليه ويكون بمثابة ميدان الاحتياط الآمن؟
قد يرى البعض في الميدان الفلسطيني خاصة في الضفة وغزة، محلاً قد تلجأ اليه «إسرائيل» لتنفيس عدوانيتها وإظهار قوتها وطلاقة يديها بعد أن غلت وأقفلت الأبواب بوجهها في كلّ من سورية وإيران ولبنان، فهل ستجرؤ «إسرائيل» على ذلك؟
الاحتمال قائم بدون شك، لكن فرص التنفيذ غير مرتفعة الدرجات، خاصة مع السلوكيات الفلسطينية الميدانية الأخيرة والمواقف السياسية المعلنة، وهنا تأتي عملية المقاومة الفلسطينية في بركان بمثابة أحد التدابير الاستباقية الرائعة التي تضاف الى كمّ من المواقف والتصرفات التي تأتي في طليعتها سلسلة تظاهرات رفض التصفية والتشبّث بفلسطين كلها التي تنفذ كلّ جمعة، تأتي هذه التدابير لترسل رسالة هامة الى «إسرائيل» بأنّ فلسطين ليست الخاصرة الضعيفة وعليها ان لا تغامر. يبقى ان تعزز هذه التدابير لتمنع العدوان، وهنا تكون القيادات الفلسطينية مسؤولة عن اتخاذ مواقف تخدم هذا الهدف، ويكون أقلها التوحد في المواضيع الاستراتيجية والاتفاق لإدارة الخلاف في ما تبقى.