يأتي الحراك الفرنسي على خط الدفع لتأليف الحكومة اللبنانية، في سياق اهتمام باريس التاريخي بلبنان. في كل العهود الرئاسية الفرنسيّة، لم يتخلّ الاليزيه عن التزامه المعنوي بلبنان. ولذلك، يهتم الآن الرئيس إيمانويل ماكرون بمستجدات السياسة اللبنانية ويحثّ القوى على إخراج الحكومة من عنق زجاجة الحسابات التي تتداخل فيها العوامل الداخلية، بالاقليمية، بالدولية. لكن ماكرون يعرف جيداً أن عواصم أخرى صارت تؤثر أو تحرّك السياسة اللبنانية، أكثر مما تستطيع باريس فعله. رغم ذلك، لم يتراجع إهتمام الاليزيه بلبنان، لا الآن، ولا في عهود الرؤساء السابقين فرنسوا هولاند، نيكولا ساركوزي، جاك شيراك، ولا من سبقهم على تولي الرئاسة الفرنسية. لن يقتصر الاهتمام على الدفع المعنوي. سبق وان نظّمت فرنسا مؤتمر "سان كلو"الذي شهد حوارا بين القوى اللبنانية، وبقي الموفدون الفرنسيون على خط باريس-بيروت، للوصول الى حلول عند ظهور عقد او خلافات سياسية بين اللبنانيين.
ماكرون شخصيا يتابع ملف الحكومة اللبنانية، ويرغب بتأليفها سريعاً برئاسة سعد الحريري. هو التقى رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون في أرمينيا، وحثّه على دفع التأليف الحكومي الى الأمام، لأسباب جوهرها إقتصادي-مالي، قبل ان تضيع على لبنان فرصة نتائج مؤتمر "سيدر"، الذي رعته باريس. التفاهم كان عنوان اللقاء بين ماكرون وعون، لأن الرئيسين يرغبان بدوران العجلات السياسية والاقتصادية والمالية في لبنان بشكل طبيعي. لكن ثمة عقد في شأن التأليف، هل تمون فرنسا على حلّها؟ سبق وحاول السفير الفرنسي برونو فوشيه إستطلاع الأجواء السياسية، وأبلغ بلاده بما يحول دون التأليف الحكومي، فقرر ماكرون ان يتدخّل شخصياً، لكن واقعية الفرنسيين تفرض على سيد الإليزيه، أن يجري اتصالات مع عواصم مؤثّرة في الداخل اللبناني، كطهران، والرياض، وواشنطن، وموسكو. رغم ان ماكرون يعرف أن واشنطن وحدها قادرة على أن تمون لحل عقد سياسية لبنانية، فتتشكّل الحكومة. لكن الأميركيين نأوا بأنفسهم حتى الآن، ولم يظهر حراك اميركي واضح ومؤثر بشأن لبنان، الى درجة ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب لم يذكر اسم لبنان في خطابه في الجلسة العامة للأمم المتحدة في نيويورك. التباين الذي يطيح في كل مرة بأفكار ومقترحات ايجابية بين بعبدا وبيت الوسط، يؤكد أن رئيسي الجمهورية والمكلف بالتأليف الحكومي يستعجلان إعلان الولادة الحكومية، لكن الاطاحة تأتي من أمكنة وحسابات أخرى، ستقدر وحدها العواصم التي ذكرناها على تليين مواقفها، بوساطة باريس. لذلك سيبقى الدور الفرنسي قائماً، من أجل فرض حلول لبنانية. متى؟ لا اجوبة محددة. خصوصا ان النيّة الايجابية الفرنسيّة، لا تعني تجاوبا دولياً مع طروحات ماكرون. بالنسبة الى الأميركيين، تختلف المقاربة لدور لبنان، عن حسابات ورؤية باريس في هذا المجال، خصوصا ان ترامب يقيس خطوات بلاده في الخارج على اساس معادلة: ماذا نحقق؟ ماذا نستفيد؟
في لبنان لا يوجد قدرات مالية تجذب ترامب كدول الخليج، ولا ثروات طبيعية تسحب الأميركيين الى بيروت، كما الحال مع بغداد. فقط، هناك العامل الاسرائيلي الذي يفرض على البيت الابيض ان تكون مصلحة تل ابيب فوق كل اعتبار. يعني ذاك العامل مزيدا من التضييق على "حزب الله"، وحشر لبنان لدفعه الى القبول بتسويات او عدم معاكستها على الأقل، والقصد "صفقة القرن" ومستلزماتها، ومتفرعاتها.
بالمحصلة، لا تساعد تلك الحسابات ماكرون على فرض تسويات سياسية في لبنان، لإخراج الحكومة من عنق الزجاجة، والبدء في مسار اصلاحي يفرضه مؤتمر "سيدر". لكن كل حراك الرئيس الفرنسي، يعني ان باريس مصرّة على لعب دور ايجابي بشأن لبنان، انسجاماً مع دورها التاريخي، والتزاماً بسياسة حفظ مكانتها المعنوية في الشرق الاوسط، وتحديدا في لبنان. كل رهانها ينطلق من لبنان، ويقع على عاتق اللبنانيين. ما يستوجب التجاوب اللبناني مع مساعي الفرنسيين، تقديرا لباريس، وإنقاذا للاقتصاد والسياسة اللبنانية.