1- تقديم: أصدر الأديب والصحافي نبيل خوري، كاتب رواية "الغربتان" الأولى عن فلسطين والثانية عن لبنان، مجلّة "المستقبل" في باريس وقد آلت إلى الرئيس رفيق الحريري صحيفة وشاشة وتياراً سياسيّاً في لبنان. كانت اللحظة الأسعد إليه هي عندما يسترخي في مكتبه ورأسه بين يدي الحلاّق الذي يزوره كلّ لتصفيف شعره وحلق ذقنه. يمكنك خلالها أن تطلب لك أولغيرك إضافات ومكافآت مالية أو إجازات وعلفى قلبه مثل العسل. سألته عن السر قال: أخذته عن معلّمي سعيد فريحة الذي بدأ حياته مساعداً لمصفّف شعر في حلب وصار أحد اباطرة الصحافة ومصفّف أظرف المقالات وبقي المزيّن صديقه اليومي المميّز.
كيفما تلمّست حبر كبار الصحافيين في لبنان وجدت في طيّاتهم وخوابيهم المضيئة ملامح مدرسة شيخ الصحافة سعيد فريحة ونكهته ونباهته. برق زاوج بين المقصّ الحاد والقلم الحذق يقدحهما شرراً لطيفاً فيطلع اللغم الجميل فيك وأنت تقرأ مبتسماُ ولربّما تستغرق فلا تتعرّق من شدّة السرور.
إلهام وعصام فريحة جدلا صلابة أرتوذكسيّة الجذور المستقيمة الرأي التي تركها سعيد فريحة في تلّة الحازمية قبل أن تتشظّى وتتفرّق القيادات وتحتمي في التلال. وبسّام فريحة حمل برق أبيه برؤوس تلك الجذور ومدّها كالشرايين نحو ماء الخليج ونهضته فحمل جنسيته وصار الخليج وطنه الثاني/ الأوّل.
الصديق سمير عطالله أنموذج الكاتب والأديب الموزون الذي يقاسمك الحبر والغربة يمكنه أن يقصّ عليك بلا ملل ظرف سعيد فريحة وألقه. من يكتب هذا التاريخ المجيد في دولة الميديا.
2- الإشكاليّة: شغل أساتذة الصحافة وأهل الإعلام خواف الانترنت التي ستحفر قبر الصحافة المكتوبة وكل ما هو مكتوب. بالمقابل، كان العديد من الزملاء والباحثين يغايرون هذا الرأي لأنّ ظهور الشبكة العنكبوتيّة وطغيانها ستستعيد بفضلها الصحافة المكتوبة يوماً ما المكانة التي تقضمها منها أجيال الشاشات المتنوّعة والمتعاقبة.
وقعت أسير وجهتي النظر المذكورتين، وجرفتني التوجهات القائلة بموت الصحف في زمن الكتابة الإلكترونية. سادت في ال 1990 أساطير مقولة "تؤلّف ولا تؤلفان"، ووجدتني أغوض خلال عقدٍ مع فريق من الجامعيين في كليّة الإعلام ، بحثاً عن ظاهرة زوال تكديس الصحف والمجلات والكتب في المكاتب والمدارس والجامعات حتى الإختناق، مع ولوج عصر التخزين الضوئي ، ومدى التهديد الفعلي للكتابة بعد تفجّر النبع الإلكتروني ، واضعاً بتصرّف البشر مكتبات جوّالة زهيدة الأثمان.
بيع في العام 2001 مليون عنوان إلكتروني مثلاً ، بعد ظهور مبيعات عالية في عالم النشر الفرنسي Start-Up ، والذي جاء بعد عامين على ظهور الكتب الالكترونية في أميركا، بما كان يرشدنا إلى تحولات كبرى في عالم الصحافة والطباعة والقراءة والكتابة.
وخرجنا بعد 7 أعوام بأطروحة دكتوراه ثانية في علوم الصحافة والإعلام عنوانها: "الإعلام العربي وإنهيار السلطات اللغوية"(900 صفحة) صدرت لأكثر من طبعة عن مركز دراسات الوحدة العربيّة في بيروت في ال2005 جاء فيها:
"إستفادت الصحافة قبل غيرها، إذاً، من الكتابة الإلكترونية التي تشغل الشاشات والعقول، وألغت مجموعة من العادات البشرية الكتابية التي طالما حفلت بتاريخ الحبر والورق والكتب والقراءة. وصرنا نشهد أفكاراً واقعيّة نعانيها تقدّر "نهاية عمر الورق والكتب التقليدية وتحوّلها إلى تحف أو هدايا في مرحلة أقصاها في العام 2020 حيث ستسقط نهائياً كلمة صحيفة من المعاجم في معناها القديم، ويصبح تعريفها الجديد في: أنها مادة تقرأ على الشاشة الصلبة أو اللينة، وتطوى في الجيب الخلفي من سراويل الجينز".
3- المناسبة/السؤآل لماذا هذه المقدّمات؟
لأنّ دار الصيّاد في لبنان فاجأت الوسط الإعلامي والرأي العام بقرار وقف جريدة "الأنوار" بعد حوالي 58 عاما على صدورها وغابت جميع المطبوعات الأخرى التابعة للدار "الصياد" و"الشبكة" و"فيروز" و"الفارس" و"الدفاع العربي" بدءا من أوّل تشرين الأول/أكتوبر 2018.
الأسباب أعباء مالية، وحفاظاً على سعيد فريحة تغيب مطبوعات عريقة في نهضة الصحافة في العالم العربي ومعها نطوي صفحة من تاريخ الصحافة اللبنانية، لنتابع معاً إنهيارات الصحافة المكتوبة في لبنان والعالم العربي.
مرّ الخبر مروراً بارداً مؤلماً مثل عقصات المؤسّس السعيد الفرح في آلام أجياله المتراكمة بحثاً عن طريقً جديد متعثّر. لربّما لأنّ عاصفة غياب صحيفة "السفير" ومكتب صحيفة "الحياة" سبقت وجاهرت مطالباً بإقفال كليّة الإعلام والتوثيق في لبنان والتقنين في تخريج الطلاب في مجال الماستر والدكتوراه في علوم الإعلام والإتصال البائر.
4- الخلاصة: تسأل إلهام فريحة على صفحة "الأنوار" الأخيرة: من الورق إلى الأونلاين ماذا بعد؟ ويسأل التعب نفسه: هل من نهاية؟
الجواب في المقالة المقبل.