كان شهر أيلول المنصرم الموعد المبدئي المرتقب لإطلاق عملية تحرير إدلب بعد أن فرغت سورية من تحرير الجبهة الجنوبية، وأمسكت بالحدود الدولية مع الأردن، وأعادت التمركز على خط « فضّ الاشتباك» في الجولان. وبالفعل كانت سورية قد أنجزت معظم التحضيرات لإطلاق هذه العملية في إدلب، وهي العملية التي قرّرها وأعلنها الرئيس الأسد شخصياً، وانصرف الجيش العربي السوري للتحضير الميداني لها مع الحلفاء بكلّ ما تبتغيه من مَواطن القوة وظروف النجاح. وفي المقابل كانت أميركا ومن معها من تابعين وأدوات تصعّد على كلّ الاتجاهات من أجل منع العملية لأنها ترى فيها إسقاطاً لورقة رئيسية تكاد تكون الأخيرة ميدانياً أو ما قبل الأخيرة في كامل الوضع السوري، وهي ورقة إنْ سقطت ستنتج مشهداً جديداً في سورية يكون فيه الاحتلال الأميركي المتجسّد بالانتشار في 13 قاعدة عسكرية أميركية قائمة بشكل غير شرعي على الأرض السورية يكون فيها هذا الاحتلال بالمواجهة المباشرة مع القوى السورية الرسمية والأهلية الساعية إلى تحرير البلاد من الإرهاب والاحتلال على حدّ سواء، وهو وضع تتحاشاه أميركا كما يبدو. أما تركيا التي تحتلّ هي الأخرى أراضي سورية في الشمال والشمال الغربي فقد كانت تخشى من العملية السورية المذكورة لأنّ فيها إحراجاً لها أيضاً على أكثر من صعيد، ولذلك بذلت جهوداً مضنية من أجل الاستحصال على موافقة إيران وروسيا لحمل سورية على تأجيل العملية لمدة 6 أشهر يبحث خلالها عن حلّ لمنطقة إدلب يحفظ لتركيا موقعها بشكل خاص في العملية السياسية التي يعمل لتوفير ظروفها كما يتظاهر كلّ من حشر نفسه أو اضطر للتدخل في المسألة السورية. في ظلّ هذه المواقف انعقد مؤتمر القمة الثلاثي في طهران، وجهدت تركيا في انتزاع الموافقة الإيرانية الروسية على طلبها ففشلت، لا بل أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حزماً في الموضوع أشعر التركي بأنّ تحرير إدلب وإعادتها الى السيادة السورية أمر لا مفرّ منه، ما جعل أردوغان يطلب اللقاء الثنائي مع روسيا للوصول إلى اتفاق وسط يبعد الحرب ويحقق مبدئياً الأهداف التي يعلنها الروسي وتتمسك بها سورية، أيّ تحرير إدلب بشكل تامّ، ويمنح تركيا فرصة للمنورة لتحقيق شيء مما تريد. وبالفعل كان لقاء سوتشي الذي نجح خلاله الرئيس الروسي في صياغة حلّ قد يوصف بأنه حلّ وسط يرضي تركيا من جهة ويحمّلها المسؤولية من جهة أخرى، لكن الأهمّ في الاتفاق هو طبيعته وأهدافه وربطه بتوقيتات محدّدة قد تكون هي الأهمّ في الاتفاق الذي أعطى سورية ومن غير شك مكاسب عدة وسحب من يد الغرب أوراق وذرائع يحضّر لها للتدخل العدواني ضدّ الجيش العربي السوري الذي يتأهّب لعملية تحرير إدلب. ومع حلول الأجل الأوّل المحدّد في الاتفاق أيّ 15 تشرين الأول 2018 أمس ، تزعم تركيا أنها نفذت ما طلب منها إنشاء المنطقة العازلة وإخلاءها من السلاح الثقيل وفرز المسلحين . ولكن الميدان يكذّب الزعم التركي، ففي حين أنّ المطلوب تحقيقه في المرحلة الأولى وفي مهلة شهر ينتهي بالتاريخ المتقدّم، المطلوب إنشاء المنطقة العازلة وفرز المسلحين بين إرهابي رافض للحلّ السياسي ومسلح مستعدّ للاستجابة لمقتضيات الحلّ السياسي، فإنّ الذي نُفذ وفقاً لمصادر موثوقة هو اتفاق بعيد عن الإعلام عُقد بين تركيا وجبهة النصرة الإرهابية الرافضة لاتفاق سوتشي جملة وتفصيلاً، والرافضة لوقف القتال، اتفاق قضى بتسليم جبهة النصرة السلاح الثقيل المعطل لتركيا ونقل جزء مما تبقى من سلاح صالح إلى مخازن خارج الـ 15 كلم أيّ خارج المنطقة العازلة ونشر الباقي من السلاح الثقيل في المنطقة العازلة وتشغيله بيد إرهابيّي جبهة النصرة بإشراف من المخابرات التركية. أما الفرز والفصل بين فئتي المسلحين فواضح أنّ تركيا لم تنفذ منه شيئاً، ولم تبلغ روسيا شيئاً يتصل بهذا الموضوع، ثم كانت مجاهرة جبهة النصرة بسلوكيات ومواقف تسقط الزعم التركي ضمناً حيث قصفت المناطق السورية المحرّرة انطلاقاً مما تدّعي تركيا أنه بات منطقة عازلة خالية من السلاح الثقيل ثم أعلنت أنها لن تلتزم بسوتشي ولن تتوقف عن القتال.
إضافة الى ما تقدّم من نكول وتحريف ومماطلة في تنفيذ اتفاق سوتشي وبشكل يوحي بأنّ تركيا تريد استثمار الاتفاق من أجل كسب الوقت والعودة لتفعيل مشروعها الخاص بها في سورية فقد أعلنت تركيا، أنها باقية في سورية حتى إجراء الانتخابات النيابية وضمان الاستقرار في الوضع السياسي بشكل نهائي، ثمّ أعادت اتفاقها مع أميركا حول منبج إلى دائرة الضوء وتحضّرت للتدريب لإطلاق الدوريات الأميركية التركية المشتركة في منبج، ثم جاء موقفها الأخير المتمثل في الإعلان عن تحضيرات لعمليات عسكرية تركية شرقي الفرات بشكل أحادي وبعيداً عن أيّ تفاهم أو تنسيق مع منظومة الرعاية في استانة، جاء بمثابة الإعلان غير المباشر للتنصّل من التزاماتها السابقة في سوتشي واستانة. كلّ هذا وسواه مما لم يذكر من تصرفات تركية أحادية الجانب وعدوانية ضدّ سورية يؤكد ما نقول به دائماً عن قناعة بأنّ تركيا ليست بصدد البحث عن حلّ يحفظ سيادة واستقلال سورية، لا بل أنها تستغلّ شراكتها مع إيران وروسيا في منظومة رعاية مخرجات استانة من أجل توفير فرص نجاح مشروعها الخاص وهي من اجل ذلك تناور وتستثمر في الظروف من أجل كسب الوقت وتوفير مصادر القوة اللازمة واستغلال الظروف الدولية المتقلبة، فهل انّ شركاءها في أستانة غافلون عن مناورتها؟ بداية نقول انّ سورية ومنذ انقلاب أردوغان في العام 2011 على الاتفاق الاستراتيجي التركي السوري وظهور أردوغان مظهر العدو، فانّ سورية لم تثق يوماً بهذا الشخص وبنظامه الاخواني على الإطلاق، لكن ورغم هذه النظرة قبلت سورية بتفاهمات أستانة بضمانة روسية إيرانية وليس بثقة في تركيا. والأمر نفسه حيال اتفاق سوتشي حيث قبلت به سورية ثقة بالجانب الروسي ثم باعتباره أمراً مؤقتاً، يؤدّي في حال نجاحه إلى حقن الدماء ويحقق الغرض في استعادة إدلب الى حضن الوطن، أما في حال الفشل فإنه يكون منح سورية وحلفاءها مزيداً من الوقت لضمان المزيد من فرص النجاح في تنفيذ عملية التحرير الجاري التحضير لها، كما انه وهذا مهم جداً أيضاً يؤمّن سحب ذرائع العدوان الأميركي الأطلسي على سورية وهو عدوان كانت تحضّر له اميركا بذريعة ملفقة هي استعمال الكيماوي. أما روسيا وإيران، الشريكان الآخران مع تركيا في أستانة، فإنهما قاطعان في الموقف من اتفاق سوتشي، فإما ان ينفذ بحذافيره نصاً وروحاً ما يعني ان يكون التنفيذ مرحلة انتقالية لإعادة إدلب الى حضن الدولة وسيادتها في مهلة لا تتعدّى بضعة أشهر بين 3 و6 أشهر يعقبها خروج تركيا من سورية دون ربط الخروج بأيّ شرط آخر، أو تكون المنطقة واجبة التحرير وفقاً للعملية التي كانت ولا زالت قيد التحضير. لقد استثمرت سورية وحلفاؤها فرصة الشهر المنصرم وعزّزت مواقعها العسكرية الهجومية والدفاعية التي كان من أهمّها السيطرة على الأجواء السورية وإقفالها في وجه الطيران والقنابل والصواريخ الذكية، وهو تطوّر بالغ الأهمية أربك أميركا و»إسرائيل» وعقّد تدخلهما في عملية تحرير إدلب عندما تنطلق. كما أنه تمّت الاستفادة من المهلة المنصرمة للقيام بإجراءات أمنية وميدانية هامة في المنطقة سيكون من شأنها توفير الكثير من الجهد وخفض مستوى الخسائر عندما تنطلق العملية مع رفع منسوب النجاح فيها وتقصير وقتها. وعليه نقول إنّ لجوء تركيا إلى المناورة أو الخداع لن تكون نتائجه كما خططت تركيا ـ بل ستنقلب الأمور ضدّها وستجد تركيا نفسها تفقد أوراقاً ذهبية هامة كانت ستتخذها أوراق ابتزاز للغرب والمحيط ليس أقلها ورقة الإرهابيين الأجانب الذين كانت ستحتفظ بهم لفترة في مخيمات تقيمها على أرضها، أو ورقة النازحين، أو روقة الوجود المؤقت على الأرض السورية، ما يعني أنّ السعي التركي للربح بالخداع سينتهي بخسارة مؤكدة فلننتظر…