في النصّ الآتي قصص قصيرة عن الفساد في لبنان. شذرات ستنتهي جميعها عند شيء اسمه «الهيئة العليا للتأديب». هي مجرّد نماذج، لكنّها حقيقيّة، تماماً. أشياء حصلت، وما زالت تحصل. ربّما لا تحمل كلّها جديداً لِمَن أدمن قراءة حكايات الفساد الإداري، وغيره، في بلادنا. بعضها يحمل رمزيّة خاصّة. هذا عمل توثيقي لِمَن يهمّه الأمر، أو، أقلّه، كأرشيف لحقبة عشناها... وما زلنا نعيشها. ربّما يأتي، ولو بعد ألف سنة، مَن يهمّه الأمر. ربّما لن يأتي أيضاً. حقبة مِن حقّ أحدنا أن يخالها أزليّة. الأمل هنا أقرب إلى الغشّ. أشبه ببيع الوهم. ومع أنّ القاضي، الشخصيّة المحوريّة هنا، مع قطعه بأنّ نحو ثلثي «موظّفي الدولة» يجب طردهم، ما زال يُصرّ على «لولا فسحة الأمل»... إلا أنّه ليس في النصّ الآتي ما يدعو إلى الأمل.
ستذهب مقولة القاضي مروان عبّود للتاريخ. ستكون، لِمَن يهمّه الأمر، شهادة على عصرنا. ليس عابراً أن يقول قاضٍ، وهو رئيس الهيئة العليا للتأديب، إنّه يُفضّل لو كان لديه «دكّانة فلافل» ليعتاش مِنها، في لبنان، بدل أن يكون قاضياً. قال إنّ «بيع الفلافل أشرف لي». هذه شهادة لِمَن سيأتي بعدنا: هكذا عشنا في هذه البلاد. هكذا كانت منظومة العدالة، القضائيّة وغيرها، بائسة ومدعاة للمقت. نعرف عبّود قبل أن يُصبح رئيساً للهيئة المذكورة. نعرفه يوم كان قاضياً في ديوان المحاسبة، ونعرف كيف جاهد، قبل نحو ثماني سنوات، ليكشف أنّ احتفاليّة «بيروت عاصمة عالميّة للكتاب» إنّما كانت، في أحد وجوهها، عاصمة عالميّة لـ«الفساد». كيف انتهى ذاك الملفّ؟ في العام التالي، تقاعد المدير العام لوزارة الثقافة، المدّعى عليه، وجرى تكريمه في حفلٍ برعاية «كبار رجال الدولة». القاضي عبّود كان يُتابع ما يجري ويحمل في قلبه. كثيرون استغربوا عندما عُيّن، لاحقاً، رئيساً لهيئة التأديب. هناك مَن قال إنّها بارقة أمل. بعض المتشائمين قالوا: يبدو أنّ ثمة خطأً ما. هو نفسه استغرب الأمر. لبس «ثياب الشغل» وبدأ. وكانت الصدمة. لا عمل. ليس لديه سُلطة إلا بحدود ما يُحال عليه مِن ملفّات فساد. راح يُناشد «التفتيش المركزي» أن يُرسل إليه ملفّات الفاسدين. القانون يمنع أن تُبادر هيئته بنفسها. كان يتوقّع أن تصله الملفّات «الدسمة». لاحقاً أصبح «التفتيش» يُحاربه. عرفوا أنّهم أمام شخص يُريد أن يَعمل. راح يُلاحظ أنّ الذين يُحالون عليه، لتأديبهم، وعلى قلّتهم، إنّما هم مِن «صغار القوم». فهِم أنّ هؤلاء مِن الذين تخلّت عنهم «جماعاتهم» الراعية لهم. انتهت مدّتهم. لكلّ موظّف، غالباً، جهة سياسيّة ما تحميه. هي مَن وظّفته أصلاً. يُضحّى أحياناً ببعضهم. هذا جزء مِن لعبة تلميع الصورة. عاقبت الهيئة التي يرأسها عبّود مَن يستحق العقاب، بحسب القانون، لكن هذا لا يُغيّر شيئاً. ذلك ولّد لديه «أزمة ضمير». شعر أنّه أصبح جزءاً مِن «النظام». هكذا تجري الأمور. هنا قال كلمته الشهيرة، أخيراً، بعد نحو ستّ سنوات على تعيينه رئيساً لـ«التأديب».
«النافذ» جار الوزير
كان أحد الموظّفين المدنيين في الجمارك مكلّفاً بتصفية الرسوم. وظيفته أن يُحدّد قيمة المبالغ التي يجب أن تُقبَض، وكان هو، بنفسه، يقبضها مِن الناس، خلافاً للقاعدة الإداريّة (الأقرب إلى البديهة). هذا خلل في «النظام». صار يقبض ويحتفظ بالمستندات لنفسه. يُتظّم أمر قبض 100 مليون ليرة، ثمّ يشطب بعض الأصفار ليُصبح المبلغ 100 ليرة فقط. مجموع ما نهبه، مِن هذه الممارسة، بلغ نحو 10 مليارات ليرة. هذا المعلوم فقط. هذا ما أحيل به إلى «التأديب» فقط. كان مضى على وجوده في مركزه الوظيفي نحو 30 عاماً. حاول القاضي البحث أكثر في تاريخه. مهمّة مستحيلة. كلّف المُتّهم بعض «كبار المحامين» في البلد ليدافعوا عنه. أحد هؤلاء قال لـ«التأديب» إنّه لا يحقّ لكم محاكمته «إلا بوجود المستندات كلّها». أجابهم القاضي: «حسناً، أين المستندات هذه؟». تبيّن أنّها أُحرِقت. في النهاية، اعترف الموظّف بأنّه اختلس مليوناً ونصف مليون ليرة فقط. هذه لم يمكنه التنصّل مِنها. هذا كافٍ لـ«التأديب». أُخِذ القرار بعزله مِن عمله. المُتهم كان مِن «الواصلين». يعرف كيف تجري الأمور. اشتكى لدى مجلس شورى الدولة، فما كان مِن الجهة الأخيرة إلا أن أيّدته، بحجّة أنّ «الاعتراف لا يكفي». يومها كانت لحظة مصيريّة في حياة القاضي عبّود. ذهب إلى رئيس الجمهوريّة السابق، والتقى به. اعترض أمامه على قرار رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر. قال للرئيس: «إذا تمّ نقض قرارنا مِن قبل «الشورى» فأنا سوف أقدّم استقالي وأسعى إلى مغادرة البلاد». بعث الرئيس لصادر واجتمع به. حُلّت المسألة تحاشياً لهزّة ممكن أن تحدثها استقالة رئيس «التأديب». كان المُتهم يقطن في مبنى يقطنه وزير العدل (أصبح اليوم سابقاً). الأخير كان يُبرّر ما يحصل في الملّف بأنّ المتّهم جاره «وما فيني أطلع مِنه». لم «يقرف» القاضي عبّود مِن شيء قليل، بل مِن كثير... جدّاً.
هكذا يَنفذ النافذ
الأثرياء غالباً لا يُحبّون دفع المال. ربّما لهذا هم أثرياء. أحدهم، وهو صاحب إحدى أشهر علامات توزيع الأطعمة في لبنان والخارج، قرّر أنّه لا يُريد أن يُسدّد فواتير الكهرباء. تواصل، أو هناك مَن ناب عنه في هذه المهمّة القذرة، مع موظّف إداري في مؤسّسة كهرباء لبنان. موظّف «صغير». هذا أخذ المهمّة على عاتقه. كلّ فاتورة لذاك الثريّ النافذ كانت تبلغ قيمتها نحو عشرين مليون ليرة. لديه «فيلا» ضخمة وأشياء أخرى. جاءه الموظّف بالحلّ: سوف نبدّل العدّادات... وبدأ العمل. أشعل النار في غرفة الكهرباء التي تحوي العدّادات. اختفت الأدلّة. جاء بعدّاد جديد (ساعة). قبض لقاء فعلته ستّة آلاف دولار. كان لديه مطلق الراحة، إداريّاً، ليقوم بذلك خارج دائرته الوظيفيّة. أنجزها في عجلتون بينما هو في دائرة جونية. يعلم أن لا أحد سيسأل. هذه أحد تطبيقات «المال السايب». فعلها مراراً. أحيل إلى الهيئة العليا للتأديب.
عوقب، صُرِف مِن عمله، لكن ماذا عن الراشي؟ هذا ليس موظّفاً ليكون للهيئة سُلطة عليه. حاولت الهيئة التي يرأسها القاضي عبّود، على عادتها في سائر الملفّات، أن توصل إلى المعنيين إشارة بضرورة ملاحقة الراشي أمام القضاء الجزائي. هذا لا يحصل. يسقط «الصغير» فيما ينفذ النافذ، دوماً، مِن «نافذة» ما. حكاية الزعماء السياسيين، وعموم النافذين، الذين لا يُسدّدون فواتير الكهرباء يطول سردها.
بالمناسبة، راسلت النيابة العامّة الماليّة، الشهر الماضي، شركة كهرباء لبنان بطلب تزويدها لائحة بأسماء السياسيين (وعموم النافذين) الذين لا يُسدّدون فواتير الكهرباء. لم نعلم بعد ذلك ما حصل. هل ننتظر؟ سننتظر... وإن كانت النتيجة معلومة بحكم «الضرورة».
«الفاسد المُستقيم»
موظّف حكومي فاسد لكنّه صاحب مبدأ. يقبض مِن الجميع، لا يستثني أحداً، كما لا يَقبل «الواسطة» مِن أحد. كان أمين سجلّ عقاري. بداية، كان عمله في منطقة الشوف، حيث وصلته معاملة تخصّ «الزعيم» وليد جنبلاط ليمرّرها. لم يفعل. طلب 10 آلاف دولار لجيبه. قيل له: ويلك، إنّها لجنبلاط! لم يسمع نصيحة «أرباب العمل». فجأة نُقِل مِن مكان عمله إلى منطقة أخرى، إلى صيدا تحديداً. هناك وصلته معاملة، عقاريّة أيضاً، مطلوب أن تمرّر بسرعة وهي تخصّ مسؤولاً أمنيّاً. هذا الأخير لا يُريد أن يدفع. حسناً، الموظّف سيَعتمد «المماطلة». يؤخّر إنجاز المعاملة ما استطاع. سيُنقَل بعدها إلى طرابلس. هناك وصلته معاملة تخصّ البطريرك والمفتي. كان بينهما تبادل عقارات، والآن يُريدان وضع قيود لدى أمانة السجلّ. عليهما أن يدفعا. أوصل ذلك لهما بطريقته. نزل الغضب عليه. كان أحيل مراراً إلى هيئة التأديب العليا (قبل عبّود). استمر على ذلك لسنوات طوال. لم يرتدع. نموذجه الخاص، الذي يمكن أن يُسمى الفاسد المُستقيم، دفع البعض إلى التعاطف معه. ليس لديه «دقن ممشطة». بهذه اللائحة، وأكثر، وصلت أوراقه إلى هيئة التأديب، وصُرِف أخيراً مِن عمله. كثيرون دفعوا له على مدى سنوات. كلّ هؤلاء لم تستطع الهيئة الحاليّة أن تصل إليهم: ليس ضمن صلاحيّاتها. هل أحيلوا إلى القضاء الجزائي؟ كلّا. الراشي في بلادنا لا يُعاقب، إذ يصعب التوثيق. إثبات الأمر في الجزاء في غاية التعقيد. لا يكفي اعتراف المرتشي. كأنّ نصّ القانون هنا مِن ضمن «اللعبة».
«نافذة» القضاء الجزائي
مَن قال إنّ «التفتيش» لا يُحيل الفاسدين على القضاء الجزائي؟ أحياناً يفعل. ذات مرّة، أحال على «التأديب» أساتذة ثانويين بتهمة أعمال غشّ في الامتحانات الرسميّة. نقلوا بعض الطلّاب إلى ثانويّة محدّدة، هي رمل الظريف، حيث كانت الفوضى مضمونة، وبالتالي صار نجاحهم مضموناً. أثناء التحقيق، وجدت «التأديب» أنّ الأدلّة، ضدّ بعض المُحالين، غير قويّة، فيما مَن توافرت الأدلّة القويّة ضدّهم، بل واعترفوا بقبض مبالغ ماليّة (عشرة آلاف دولار مثلاً)، لم يُحالوا على «التأديب»... بل أحيلوا مِن قبل «التفتيش» مباشرة على القضاء الجزائي. قاضٍ حصيف لن تعوزه الحنكة لفكّ هذا اللغز. القضايا أمام «الجزاء» قد تحتاج، أحياناً، إلى سنوات طوال قبل صدور الحكم. هؤلاء يُتابعون عملهم رغم إحالتهم على القضاء. خلال سنوات المُحاكمة تكون «الواسطة» توافرت، طمعاً بالبراءة، أو بحكم خفيف لا يؤدّي إلى «شائنة» تفرض الفصل مِن العمل. هكذا تجري الأمور غالباً. لو كانوا أحيلوا إلى «التأديب» مع الأدلّة، بالتزامن مع إحالتهم إلى القضاء الجزائي، لجرت معاقبتهم وظيفيّاً خلال مدّة وجيزة... ما دامت الأدلّة متوافرة. حجّة القضاء في التأخير، عادّة، هي تكدّس الملفّات وضغط القضايا، بينما «التأديب» تُريد أن تعمل، بل تطلب أنّ تُحال عليها الملفّات، ولكنّ هذا لا يحصل. هذا لغز آخر يفّك لإحدى «نوافذ» الفساد. في سياق قضيّة الامتحانات، سُجّل دخول والدة أحد الطلّاب إلى المركز التعليمي، حيث ابنها، مطالبة باسترداد المبلغ الذي دفعته لقاء «الخدمة» التي لم تحصل عليها «كما يجب». طالب القاضي عبّود بإحالة مَن اتهمتهم تلك الأم على «التأديب». لم يحصل ذلك. جاء الردّ مِن «التفتيش» أنّ هذه الواقعة «لا تستحق أن يُنظّم تقرير بها». يقول عبّود: «تبيّن عندي أنّ هناك شبكة كبيرة للتلاعب بالامتحانات، تمتد مِن الوزارة إلى المراكز وسائر المفاصل. كلّما تعرّضت هذه الشبكة للخطر تُبادر إلى السماح بضرب الأطراف، وبذلك يُحافظون على منظومتهم. يجعلونك تقصّ الشَعرَ ولكن لا يدعونك تقترب مِن الرأس... والشَعر يعود لينبت مِن جديد».
كاتب وجمرك ومحافظ
أوقفت «التأديب» كاتباً بالعدل عن عمله نهائيّاً. كان يتقاضى أموال رسوم لصالح نقابة المحامين، بحسب القانون، فيدوّن في سجلّاته غير ما يورّده. قبض 50 مليون ليرة، لكنّه لم يورّد إلا 5 ملايين فقط. هذه إحدى مخالفاته. تبيّن، أثناء التحقيقات، أنّه كان أوقف عن عمله سابقاً، لمدّة سنتين، بجرم سرقة أموال أمانة. هذا كاتب بالعدل. فاسد «كبير» ما، في مكان ما، قرّر أنّ يكون «واسطة» لهذا الشخص، ويُعيده إلى عمله السابق، ليعود على عادته... فاسداً.
وإلى «نافذة» أخرى. سأل القاضي عبّود موظّفاً جمركيّاً: «ألست هذا أنت الذي تظهر في الفيديو تأخذ رشوة؟». قال: «بلى». هذا كافٍ عند «التأديب» لأخذ القرار. طبعاً إلى جانب قرائن أخرى كثيرة (كأن يُدخل غرباء عن العمل خلف مكتبه). القرار كان بكسر 8 درجات مِن سلّمه الوظيفي. عاد كأنّه موظفّ جديد. القضيّة أحيلت على «الجزاء» في الوقت عينه. ما زالت عالقة هناك منذ نحو 8 سنوات. يستغرب القاضي غياب البديهيّات في العمل الجمركي. فمثلاً، يحصل تلاعب مِن قبل بعض الكشّافين الجمركيين في نوعية «الكونتينرات» (في الثياب المستوردة مثلاً). يقبضون الرشى. يسأل: «ما المانع أن يصدر تعميم بأن كلّ «كونتينر» يكون مرفقاً بصورة لما يحويه؟». لسببٍ ما لا أحد يعرف لِمَ لا يحصل ذلك.
إحالة صغار الموظّفين إلى التأديب مقابل حماية المحصّنين بالواسطة ولّد لدى القاضي «أزمة ضمير»
حكاية أخيرة. محافظ سابق للشمال وقّع على فواتير مزوّرة، فكُشِف الأمر، لكنّ «التفتيش» لم يحله على «التأديب». اكتفى بإحالة بعض الموظّفين مِن «صغار المشتركين». لا علاقة، بالضرورة، للمصطلح الأخير بمصطلح «صغار الكسبة». كيف للقاضي عبّود أن يتعامل مع هذا الملفّ وهو يرى، في كلّ الأوراق، توقيع المحافظ غير المحال عليه؟ يقول: «لطالما كنت ضدّ الحصانات. ما بيبعتوا لعنّا إلا يلي هني قاطعينلو ورقة. لو بدهم يحموه بِخَلّوا ملفّو عادة عند التفتيش وما بِحيلوه». بات عبّود يعي اليوم، بعد رحلة عمله الطويلة، أنّ «أكثر الأحزاب السياسيّة، ومِن واقع الخبرة، لديهم عصابات وشبكات خفيّة في الإدارة. يحمي بعضهم بعضاً، وينسّقون هنا رغم خلافاتهم في العلن».
قبل أكثر مِن 20 عاماً، أنتج أسامة الرحباني أغنية «لازم غيّر النظام». في شريط الأغنية المصوّر، الذي منعته رقابة «الأمن العام» آنذاك، يتجوّل الرحباني في شوارع البلد الخارج مِن حرب أهليّة. يُعاين «توحّش» الناس وفوضى الأشياء. سنوات قليلة، مِن الفساد المنظّم، كانت كافية لتبديد الحلم بولادة «دولة جديدة». في نهاية الشريط، وعلى وقع موسيقاه، يصرخ: «يا صبي قدّيش بدّك تعاند! وصلت ع نقطة اللاعودة، يا بتنتحر، يا بتهاجر، يا بتفوت باللعبة... فتّش عخلاصك».
«سيستام» ضدّ الإصلاح
قبل بضع سنين، حصل صدام بين رئيس الهيئة العليا للتأديب القاضي مروان عبّود ورئيس التفتيش المركزي السابق القاضي جورج عوّاد. كان في إحدى جلسات اللجان النيابيّة، التي حضرها الطرفان، في مجلس النوّاب. بدأ الأمر عندما طالب عبّود بإحالة بعض ملفّات الفساد على «التأديب» لبتّها. حاول تعرية اللعبة التي تحصل باسم القضاء الجزائي. أزعج الأمر عوّاد. ارتفعت الأصوات إلى حدّ الصراخ. عندها طالب عبّود بأنّ تعطى هيئته الحقّ في أن تُصدر طلبات تكليف. هذا يحتاج إلى تعديل قانوني. إنّه يُريد أن يعمل. هذا كلّ ما في الأمر. لا يُريد أن يكون شاهد زور ورهن ما يُحال عليه مِن «التفتيش». آنذاك، تكتّل النوّاب الحاضرون مع عوّاد، وقفوا إلى جانبه، ولم يُساند عبّود إلا نائب واحد. هذا الأخير أصبح اليوم نائباً سابقاً. كلّ هذا جعل عبّود يخرج بخلاصة مفادها: «هناك نزعة معادية للهيئة العليا للتأديب مِن قبل السيستام».
اليوم، أصبح هناك رئيس جديد للتفتيش المركزي. لا يبدو أن ثمّة ما تغيّر. المسألة ليست في الأشخاص. إن هي إلا أسماء تتبدّل. ما زالت الإحالات على «التأديب» ضئيلة. قبل أيّام قليلة، أطل رئيس «التفتيش» الجديد، القاضي جورج عطيّة، في مقابلة تلفزيونيّة، وتحدّث عن إحالة أحد الموظّفين الفاسدين. مَن لا يُتابع هذه الحكايات ستمرّ عليه «العراضة». ذاك الفاسد الذي تحدّث عنه عطيّة، اليوم، إنّما هو مُعاقب وخارج عمله منذ مدّة طويلة بقرار مِن «التأديب». هذا يُعطينا فكرة عن مضامين التصريحات «البطوليّة» للمسؤولين. يعلمون أن لا أحد يُدقّق. يوم ولدت «التأديب» وكذلك «التفتيش» وأكثر المؤسسات الرقابيّة، في بداية ستّينيات القرن الماضي، كان ذلك في حقبة رئيس الجمهورية السابق فؤاد شهاب. جاءت هذه القرارات ضمن خطّة «التطهير الإداري». يومذاك، كان هناك نيّة لإنشاء دولة بالمعنى (شبه) الحديث. كانت محاولة. اليوم تلك المؤسسات ما زالت قائمة، كديكور، كشكل حداثوي فارغ... كأصنام مِن خشب وقد نخرها السوس.