بعد طول تجاذب حول المسألة السورية وبخاصة إدلب وبعد الاتفاق الروسي التركي حولها في سوتشي الذي اعتبر من قبل البعض بأنه تلزيم تركيا مسالة إدلب وقطع الطريق على سورية ومنعها من القيام بأيّ عمل عسكري استكمالاً لحرب التطهير والتحرير التي تخوضها منذ أكثر من سبع سنوات، في حين اعتبره البعض الآخر انه عمل مؤقت يقطع الطريق على الغرب لمنعه من شنّ عدوان على سورية، وإحراج تركيا عبر تحميلها مسؤولية المرحلة المؤقتة التي ينبغي ان تفضي إلى إعادة إدلب الى السيادة السورية، في ظلّ هذا المشهد انعقدت في اسطنبول قمة رباعية جمعت رؤساء روسيا وفرنسا وتركيا والمستشارة الألمانية للبحث في القضية السورية وتفرّعاتها. قمة أفضت إلى بيان مشترك، اعقبه مؤتمر صحافي شارك فيه الجميع لتوضيح ما في البيان، فما هي دلالات القمة ومفاعيلها على الأزمة السورية؟
قبل الإجابة او تمهيداً لها نرى من الضروري التذكير بأنه منذ استهداف سورية بعدوان بقيادة اميركية وشراكة او استتباع أوروبي وإقليمي، حاولت قوى العدوان فرض إرادتها عبر مشاريع تمسّ بوحدة سورية واستقلالها ودورها الاستراتيجي في المنطقة، وكان البدء في ذاك البيان الشهير الذي أصدرته المجموعة الدولية في جنيف في 30 حزيران 2012 حول سورية، والذي يقوم في جوهره على مفهوم إقامة وصاية دولية مقنّعة على سورية والإطاحة بنظامها السياسي المستقلّ وتنصيب حكام عليها تحت عنوان الحكم الانتقالي. ورغم انّ روسيا وقعت على بيان جنيف ذاك فإنها لم توافق على التفسير الأميركي له، وهو التفسير الذي رفضته سورية كونه تعرّض إلى استقلالها وسيادتها الوطنية وأثار مصير الحكومة السورية بقيادة الرئيس الأسد بعد ان اعتبر انّ الحلّ للأزمة السورية يبدا بتخطي او تنحي الحكومة القائمة تلك.
رفضت سورية المنحى الغربي لما أسمي حلاً سياسياً وفقاً لبيان جنيف 2012، وتمكنت بعد سنوات من المواجهة الدفاعية القاسية من إثبات قوتها ووجودها واستمرار قدرة حكومتها على الإمساك بالمفاصل الرئيسية للدولة وبمراكز الثقل النوعي الاستراتيجي فيها، الأمر الذي كان من نتائجه قطع الطريق على فرض تطبيق بيان جنيف بالروح والتفسير الغربي، لكن معسكر العدوان على سورية استمرّ على التمسك به واعتباره الصيغة الوحيدة لإنهاء الحرب على سورية.
بيد أنه على وقع الانتصارات السورية، وفي ظلّ جمود مسار جنيف بسبب الممانعة السورية ظهرت فكرة إنشاء منظومة رعاية أخرى غير جنيف خططت لها روسيا وضمّت اليها كلّ من إيران وتركيا، فكرة كانت يوم أطلقت غريبة الى حدّ بعيد، خاصة أنها جمعت في منظومة واحدة حليف سورية وعدوها، إيران الحليف الملتزم بما تقرّره الحكومة والشعب والسوري بقيادة الرئيس الأسد، وتركيا التي كانت ولا زالت رأس حربة العدوان على سورية وصاحبة الاستراتيجية والأولى لإسقاطها استراتيجية الاخوان المسلمين .
انطلق مسار الرعاية الثلاثي الجديد هذا في استانة مركزاً على الشأن الميداني والعسكري تحت عنوان حقن الدماء والتخفيف من حدة الصراع وخفض التصعيد، ثم تطوّر الأمر باتجاه سياسي حيث التقطت روسيا مع إيران اللحظة التاريخية ودعت الى مؤتمر حوار سياسي سوري – سوري في سوتشي، مؤتمر شكل في انعقاده صدمة كبرى لأصحاب مسار جنيف وبيانها للعام 2012 خاصة أنّ جولات المباحثات التي كانت عُقدت في ظلها فشلت جميعها في بلورة أيّ إيجابية تخدم الحلّ، لذا عملوا ما بوسعهم لتعطيله.
خرج مؤتمر سوتشي السوري السوري برعاية روسية إيرانية ومواكبة تركية خجولة متردّدة، خرج ليكون بمثابة خط موازي لمسار جنيف وباتت القضية السورية عرضة للتجاذب بين مسارين، الأول غربي إقليمي يعتمد بيان جنيف 2012 ويتلطى بالقرار 2254 الذي صدر بصيغة أقلّ وطأة منه وتقوده أميركا ومعها أوروبا والدول الخليجية، ولا تستبعد تركيا منه، ومسار ثان انطلق في استانة وأكد عليه في سوتشي برعاية روسيا وإيران ومعهما شكلا تركيا، ويهدف الى إنهاء الحرب على سورية تحت عنوان مكافحة الإرهاب، وإجراء إصلاحات سياسية وفقاً لما يقرّره الشعب السوري دون ان يملى عليه شيء من الخارج ويمكن وصف المسارين اختصاراً بمسار جنيف الانتدابي، ومسار استانة – سوتشي السيادي الاستقلالي.
في ظلّ هذا المشهد انعقدت قمة اسطنبول لتواجه حقيقة مؤكدة مفادها انّ مسار جنيف لا يمكن ان يفعّل ان لم يحدث أمر من أربعة: عمل ميداني مؤثر يؤدّي الى هزيمة سورية وإرغامها على القبول بما خطط لها، او تغيير جوهري في مسار جنيف يجعله استقلالياً ومقبولاً من سورية عندما تتحقق من انه سيحفظ وحدتها واستقلالها وسيادتها، او دمج مسار جنيف بمسار استانة بعد إجراء تعديل جذري فيه. ويبقى الفرض الرابع الذي نراه ضرباً من الوهم، ويتمثل بإقناع روسيا بالتخلي عن دعمها لسورية والعودة إلى مسار جنيف.
أما في الواقع فقد أظهر استحالة في تحقيق معظم ما تقدّم، فلا معسكر العدوان قادر على إلحاق الهزيمة بمعسكر الدفاع عن سورية، ولا هو مستعدّ للتخلي عن أهدافه فيها، وطبعاً لا يمكن لروسيا ان تتخلى عن المكاسب الهامة التي حققتها من جراء العمل في معسكر الدفاع عن سوية، ويبقى من الأربعة، فرضية العمل على دمج المسارين وفقاً لشروط الأقوى وهنا تكون حنكة المتحاورين حول عملية الدمج هذه. فما الذي حصل في اسطنبول ومن كسب المواجهة؟
في تدقيق لما أعلن وما يستنتج من وراء الكلمات نجد انّ سورية كسبت من قمة الطبول تأكيداً على:
1 ـ وحدة الأراضي والمجتمع الشعب السوري ورفض أيّ فكرة انفصالية أو تقسيمية. وفي هذا نقض جذري لما أراده العدوان من مشاريع التجزئة والانفصال وخاصة ما تسعى اليه أميركا شرقي الفرات.
2 ـ الحق الحصري للشعب السوري في تقرير ما يريد عبر حوار سوري ـ سوري ترعاه الأمم المتحدة دون ان تنوب عن الشعب او تتدخل في ما يريد او يقرّر.
3 ـ دعم اتفاق سوتشي حول إدلب باعتباره مرحلة مؤقتة تفضي الى إعادة إدلب الى السيادة السورية كما حدّد الرئيس الأسد .
4 ـ التأكيد على الأولوية في محاربة الإرهاب على كامل الأرض السورية الصيغة التي جاهدت سورية منذ العام 2012 لإقرارها بما في ذلك إدلب مع التزام روسي بدعم الجيش العربي السوري في ذلك.
5 ـ حق اللاجئين السوريين بالعودة الطوعية الآمنة دون ان تبقى قضيتهم ورقة ابتزاز بيد الخارج.
وبالتالي اختفت من بيان جنيف صيغ الحكم الانتقالي، او الوصاية الدولية، المشارع الفدرلة والتقسيم، وكان واضحاً بوتين في حديثه بعد البيان ان من يريد الحلّ في سورية عليه ان يعمل مع حكومتها الشرعية القائمة.
6 ـ تجاوز ربط إعادة الأعمار بالحلّ السياسي ما يعني رفض ما تريده أميركا في هذا الشأن.
وبهذا نستطيع ان نقول بأنه في اسطنبول ومع دعوة الفرنسي الى توحيد كلّ المسارات والجهود لمعالجة الأزمة السورية، ان في اسطنبول لم ينشأ مسار ثالث الى جانب جنيف واستانة ـ بل تمّ اعتماد مسار استانة سوتشي مع توسيعه ليشكل منطقة لقاء مع جنيف بشروط روسية تأخذ بالمتطلبات السورية المدعومة إيرانياً.
وفي خلاصة تقييمية نستطيع القول انّ روسية حصدت الكثير من المكاسب في اسطنبول لصالح الدولة السورية، واحتفظت بورقه العمل العسكري وبشكل صريح إذا تقاعست تركيا في القيام بموجباتها حسب اتفاق سوتشي، وضمنت الى حدّ بعيد عدم مواجهة عسكرية مع الغرب اذا اتجهت لدعم عملية سورية في إدلب، وهذا ما نتوقعه في الأشهر الأولى من العام المقبل، بعد ان تكون استنفدت مهلة تشكيل لجنة مراجعة الدستور واستنفدت المهلة المعطاة لتركيا في مهمتها في إدلب.. ما يمكن من القول إنه توسعت استانة الى اسطنبول وجذبت فرنسا والمانيا اليها دونما انضمام كلي، وتراجعت قدرات التأثير الأميركي في المسألة السورية، بشكل ينبئ في حال استمراره بأنّ تحرير شرق الفرات لن يكون بالصعوبة التي يتصوّرها البعض، وبأنّ ما تخشاه أميركا من تقدّم روسي على حسب الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط هو أمر قيد التحقق.