عانى لبنان في تاريخه الحديث تصرفات الميليشيات. يفيد شرح هذه الظاهرة لئلا تتكرّر. الميليشيات هي مجموعات مدنيّة مُسلّحة شبه منضبطة يقودها أشخاص غير مؤهّلين عسكريًّا بشكل كافٍ، أو ضبّاط خانوا قياداتهم الرسميّة أو حتى خارجون عن القانون. وعلى عكس الدول التي اعتمدت نظام الميليشيا المرتبطة بالجيش النظامي لمساندته أو حركات المقاومة التي حافظت على أخلاقيّات عالية لأفرادها، والتي ذكرها ماكيافيللي في كتاب "الأمير"، كان عناصر الميليشيات غير المتفرّغين لا يُدفع لهم أجر كافٍ ويُترك لهم تحصيل معيشتهم بالسلب والسرقة والخوّة والمصادرات.
الميليشيات لا تُحبّ الدولة المركزيّة ولا قواها المسلَّحة ولا علمها الوطني. وهي تمتهن تسخيفها والاستعلاء عليها واحتقارها وتتحيّن الفرص لضربها ولسرقة سلاحها وسياراتها وآليّاتها وحتّى إنجازاتها ولتفرض حكمها على ناسها ومقدراتها المالية ومواردها الطبيعيّة في مناطقها. والميليشيات تتقاتل في ما بينها ومع القوى الشرعيّة بعبثيّة لا تُفسَّر. تعتمد الثأر والانتقام المضاعف والجريمة المنظَّمة، ولا تلتزم المواثيق والقوانين الدوليَّة والأعراف التي تلتزمها الجيوش النظاميَّة.
أمَّا تمويل الميليشيات فيتمّ عبر تبييض الأموال والسرقة والقرصنة والخوّات والعمالة والمخدرات والرقيق الأبيض وترهيب الناس وسرقة السيّارات الفخمة والمخازن والمعامل والمعدّات ومشاغل المدارس المهنيّة والفنادق وغيرها من الطرق الملتوية... والعجيب هو أن الحروب تنتهي ويخرج منها قادة الميليشيات الآتون من عائلات متواضعة أو متوسطة، أثرياء يتنعَّمون بمردود الأسلحة التي باعوها ليبنوا صروحهم وليكملوا مسيرتهم السياسيَّة الشخصيَّة.
في مقدَّم ضحايا الميليشيات: القانون وحقوق الإنسان والملكيّات الفرديّة والعامّة والبيئة، من دون أن ننسى الشيوخ، والنساء، والأطفال والأبرياء المسالمين وموظفي الدولة وعسكريّيها وجميع الَّذين يُخالفوهم الرأي السياسيّ أو ينتقدون أعمالهم العسكرية غير الشرعيّة.
الميليشيات لا تلتزم بناء دولة القانون ولا تؤمن بالدولة ولا بالقانون. قانونها الأعلى: حكم الأقوى المستبدّ. الميليشيات لا تُجري مراجعة لعملها ولا تُقيِّم إخفاقاتها ولا تتواضع عند قيامها بأي نجاح عام. سألت أحد قادة الميليشيات الكبار، وكان مسؤولًا أساسيًّا عن إدارة منطقته وعاد وبات وزيرًا بارزًا: لماذا لم تعملوا خلوةً لتُقيِّموا تجربة الميليشيا التي كنتم مسؤولين عنها بعد انتهاء الحرب في لبنان؟ أجابني: لم نكن نُريد يومذاك. سألته: ولمَ لا تقومون بها اليوم؟ قال لي: لم نعد نقدر على ذلك.
الميليشيات لا تهتمّ بمن يموت وبمن يُهجّر وبمن يُعوّق وبمن تتركه بلا علم أو عاطلًا من العمل بعد انتهاء دوره المُسلّح. الأبشع أن أفراد الميليشيات غير قادرين على تغيير طبائعهم الحربيّة القتاليّة النافرة والمستنفرة في شكل دائم. واليوم هم يُظهرونها كما هي على الشاشات وهم غير معنيّين بتغيير مسار المجتمع نحو الأفضل ما دام دورهم وعملهم يزدهران في أوقات الفوضى.
أفراد الميليشيات يتقاتلون في ما بينهم باستمرار ولا تجمعهم أخوّة السلاح أو القضيّة. الدم المهدور في ما بينهم يفوق ذلك المهدور على الجبهات الخارجيّة. إنهم يتقاتلون على الغنائم والسلطة والظنون مدفوعين بغرائزيّتهم ومزاجيّتهم وانفعالاتهم وأحقادهم وأطماعهم وشرورهم. الميليشيات لا تستهوي أصحاب الخُلق الرفيع ومعظم رجالها يفتقدون إلى الفكر التحليليّ النقديّ، ولا يوجد عندهم مكان لعلوم الاجتماع والسياسة والتاريخ والآداب والفنون والثقافة. وحتّى عندما يُقيمون الحلقات الدراسيّة والتثقيفيّة لرفع مستوى عناصرهم تبقى الغريزة هي المحرّك الأول لهم. يعترف أحد قادة الميليشيات: "كنّا مُضطرين إلى أن نقبل حثالة القوم والخارجين عن القانون في صفوفنا وكنا نحتمل تجاوزاتهم ما دمنا كنّا نحتاج إليهم"!.
أما وقد انتهت الحرب، ولم تُقفل الميليشيات أبوابها، وما زالت تزاول نضالها وأعمالها تحت مسميات سياسيّة، لا بدّ من ملاحظة ما يلي: تعمل الميليشيات اليوم على جيل شاب جديد متعلّم ولكن بالذهنيّة القديمة المستمرة. فهم يطمسون الحقائق الفاجعيّة ويُعظّمون البطولات المحدودة، وفي الوقت عينه يُثيرون الغرائز بالأغاني الحماسيّة والمشاهد الحربيّة على الطريقة الفاشستيّة التي تزرع في الفتيان العنف والثورة وتعظيم القتال. فيُخيّل إلى هؤلاء أنّهم، بزنودهم، قادرون على أن يُغيّروا واقعًا مريرًا لا يعرفون أن قادة ميليشياتهم صنعوه عبر عقود من الجريمة المنظمة والإرهاب والتعذيب والتخلّص من الخصوم والمنافسين والفساد المفروض... وإن وُجّه السؤال عن آثار قادتهم الكارثيّة يُجيبون بتبسيط "بريء": "من لم يقتل؟ من لم يسرق؟ من لم يظلم؟ كانت حرب والجميع أخطأ فيها".
ما يحتاج إليه الشباب هو الوعي السياسيّ ودراسة التاريخ للبحث عن الحقّ الذي يُحرّرهم من الأكاذيب والأوهام والأساطير المصطنعة، ومن لصق الجرائم والوضع الحالي السيء بالميليشيات الأخرى والجيوش الغريبة التي رحلت عن بلادنا ومن تعظيم الذات وتبرئتها من شرور ماضيها. يحتاج الشباب اليوم إلى إعمال حسهم النقدي، فيقدرون على التمييز بين الخطأ والصواب، بين النور والظلام، فيعرفون، بالتالي، الحقّ، والحقّ يُحررهم من سطوة الميليشيات على عقولهم وسلوكهم ليصير ولاؤهم للحق وللوطن وللقِيم الأخلاقيّة والأخوّة الإنسانيّة.